تونس - رويترز - بدأت بصفعة وإهانة وجهتها الشرطة لبائع خضروات في بلدة صغيرة يحيطها الصبّار وانتهت بثورة أطاحت زعيماً مستبداً في العالم العربي. ويقول سكان سيدي بوزيد حيث تغطي الأتربة الشوارع إن الغضب تراكم على مدى سنوات قبل أن يضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه ليشعل أسابيع من التظاهرات التي انتشرت في أنحاء البلاد وأطاحت الرئيس زين العابدين بن علي بعد 23 عاماً من الحكم القمعي. وشتان الفرق بين سيدي بوزيد التي تقع في وسط تونس والمنتجعات الساحلية الباهظة التي تعيش بها النخبة التونسية. فالبنية التحتية في سيدي بوزيد متداعية. ويقول سكان إن المستشفى الموجود بها تنقصه المرافق في حين غذت البطالة والمسؤولون المحليون الفاسدون مشاعر الاستياء. وصادرت السلطات المحلية عربة اليد غير المرخصة التي يملكها البوعزيزي مرات عدة من قبل، لكن نقطة التحول بالنسبة إلى الشاب البالغ من العمر 26 سنة ولبلدته وبلاده حدثت في 17 كانون الأول (ديسمبر). تجادل البوعزيزي الذي يعول أسرة من ثمانية أفراد مع شرطية صادرت بضائعه وميزانه. صفعته الشرطية على وجهه وسبّت والده الذي توفي حين كان في الثالثة من عمره. ومن دون أن تعرف أسرته شيئاً اشترى البوعزيزي عبوة بنزين وأشعل النار في نفسه أمام مقر الحكومة المحلية. وقالت أخته ليلى ل «رويترز» في منزل الأسرة بضاحية بائسة: «تخيّلي أي نوع من القمع يمكن أن يدفع شاباً للقيام بهذا. يفرضون غرامة على رجل يضطر لشراء بضائع لم يسدد ثمنها بالكامل كي يعيل أسرته... ويصادرون بضائعه». وأضافت: «في سيدي بوزيد يُهان ويمتهن من ليست لهم علاقات ولا يملكون أموالاً لدفع الرشى ولا يسمح لهم بأن يعيشوا». جلست والدة البوعزيزي وأخواته على حاشيات حول الحائط في غرفة المعيشة التي بداخلها خزانة ملابس هي قطعة الأثاث الوحيدة في الغرفة. وترتدي الأم والبنات الحجاب وهو مشهد نادر في شوارع العاصمة تونس تحت حكم بن علي العلماني. وقالت منوبية والدة البوعزيزي: «أطلب من الله أن يرحل تماماً كل آل بن علي وعائلة الطرابلسي الذين كانوا يحكمون تونس»، في إشارة إلى عائلة زوجة بن علي التي أغضبت ثروتها الضخمة الكثير من التونسيين. بدأت الانتفاضة التونسية من منطقة يقول سكان إن الحكام من الساحل الشمالي همشوها على تعاقبهم. في حي البوعزيزي منازل بيضاء صغيرة مقامة على طرق ترابية كثير منها غير ممهد. على الجدران المتهدمة كتابات تخبر المارة بمدى فخر البلدة بدوره في الثورة. قرب المكان الذي أشعل فيه البوعزيزي النيران في نفسه وضع سكان صورة له على تمثال أقيم في عهد النظام السابق. وكتب أنصاره عبارة «ميدان الشهيد محمد البوعزيزي» على أحد الجدران ودعوا إلى تسمية الطريق باسمه. وفي غياب زعماء واضحين لانتفاضة تونس خلّب البوعزيزي ألباب الملايين واستلهم البعض منه فكرة إشعال النيران في أنفسهم في الجزائر وموريتانيا ومصر. لكن أصدقاءه وعائلته والناس في بلدته هم من حوّلوا رجلاً غاضباً إلى آلاف غاضبين في الشارع. وفي دولة تفرض قيوداً على وسائل الإعلام وأحزاب المعارضة انتزعت النقابات العمالية الشجاعة للمرة الأولى لتنظم احتجاجات على حرب غزة عام 2009. وقال عطية العثموني القيادي النقابي والمسؤول في الحزب التقدمي الديموقراطي المعارض في سيدي بوزيد إن الخوف بدأ يزول وإن التونسيين كانوا مثل بركان على وشك الانفجار وحين أحرق البوعزيزي نفسه كانوا مستعدين. وتابع أن المحتجين طالبوا بثمن لدم البوعزيزي وتطور هذا إلى مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية وقال انهم بدأوا يدعون الى إنهاء الفساد. وتوفي البوعزيزي متأثراً بجروحه في الرابع من كانون الثاني (يناير)، وتقول أسرته إن الآلاف شاركوا في تشييع جنازته. واحتجز العثموني أربعة أيام لمشاركته في تنظيم الاحتجاجات لكن حين أفرج عنه هو وغيره من المنظمين كثّفوا اتصالاتهم بالسكان في بلدات أخرى. ودعت حملة على الانترنت المواطنين والنقابات إلى إنشاء لجان لدعم الانتفاضة في سيدي بوزيد. وكانت نقابة المحامين أول المستجيبين وبدأت إضراباً. وقال الأزهر الغربي المدرس والنقابي إن النقابات تدخلت والمعلمين والمحامين والأطباء وجميع قطاعات المجتمع المدني وأنشأوا لجنة للمقاومة الشعبية لمساندة أبناء سيدي بوزيد ودعم الانتفاضة. وتابع أن هذه الجهود جاءت بعدما استمرت الانتفاضة عشرة أيام في سيدي بوزيد بلا دعم من خارجها. وتابع قائلاً إن الاحتجاجات انتشرت وتغيرت العناوين من المطالبة بالخبز إلى المطالبة بإسقاط الرئيس. والتزم الاتحاد العام التونسي للشغل الصمت في الأسابيع الأولى لكنه ألقى بثقله وراء الانتفاضة في ما بعد ونظّم إضرابات عامة إلى أن فر بن علي في 14 كانون الثاني (يناير). ويزعم الكثير من التونسيين أن بن علي حين فر أخذ معه ملايين وأن زوجته ليلى أخذت معها كيلوغرامات من الذهب. لكن كثيرين في سيدي بوزيد يقولون إن إسقاط بن علي ليس كافياً فهم يريدون حل حزب التجمع الدستوري الديموقراطي الحاكم. وقال الغربي إنه بالنسبة للجان المقاومة الشعبية القضية الآن هي أن «الثورة عند مفترق طرق». وتابع أنه يريدها أن تستمر الى النهاية وأن تزيل بقايا النظام الذي يمثله التجمع الدستوري. ولا يفوت مغزى الانتفاضة التونسية على زعماء الدول العربية الأخرى المتهمين بكبت الحريات السياسية والفساد وعدم توفير وظائف. وقال رشدي هورشاني وهو قريب البوعزيزي: «إذا أردت إنشاء شركة ستجد كل الخريجين الذين تحتاجهم هنا... من مهندسين وأطباء ومحامين ومعلمين وجميعهم لا يعملون». وأضاف: «إذا ذهبت إلى سوسة وهي المنطقة التي ينتمي إليها الرئيس لن تجد خريجاً عاطلاً. المسألة كلها كانت متعلقة بالفساد والرشى».