تبدو المرحلة التونسية المقبلة مفتوحة على غموض كبير، بعد تفاؤل أيامها الأولى. ف «ثورة الياسمين» تقف أمام مفترق طرق، تتلمس خطواتها القادمة لمعرفة الاتجاه الذي ستسلكه والهوية الحقيقية التي ستحملها. هل هي مجرد انتفاضة شعبية للإطاحة بزين العابدين بن علي ومجموعة الأشخاص الذين كانوا وثيقي الصلة به وبزوجته المغضوب عليها ليلى طرابلسي وأفراد عائلتها؟ أم إنها ثورة بعيدة الأهداف تقصد القضاء على كل ما كان يمثله النظام السابق، رئيساً وحكومة وحزباً ومؤسسات، والسير بتونس في اتجاه جديد؟ في خضم هذا الغموض، الذي كشف عنه التصدع الذي أصاب حكومة محمد الغنوشي الأولى في «العهد الجديد»، بعد استقالات وزرائها المحسوبين على الانتفاضة، باتت «ثورة الياسمين» مهددة باختطافها من جهات عدة، إذا بقي من يقفون وراءها، إذا كان هناك من جهة معينة وراءها، مصرّين على عدم تدارك الانفلات الأمني الذي ما زال مستمراً في شوارع المدن التونسية. من مصلحة هؤلاء أن يدركوا أن بدايات الانتفاضات الشعبية شيء والمآلات التي تنتهي إليها شيء آخر. فكثيرون ينتظرون اول قطار أو طائرة متجهة إلى تونس لخطف «ياسمين» التوانسة. منهم من وصل من باريس كمنصف المرزوقي رئيس حزب «المؤتمر من اجل الجمهورية» اليساري، ومنهم من يحزم حقائبه قادماً من لندن، كراشد الغنوشي، زعيم حزب «النهضة» الإسلامي الاتجاه، ومنهم من يقيم في تونس نفسها بانتظار الفرصة السانحة. مشاريع كثيرة ومتناقضة يحلم بها المعارضون الذين كان النظام السابق يحظر نشاطهم السياسي، والذين يحاولون الآن اقتناص الفرصة. اليساريون يرفعون شعارات الإصلاح على قاعدة أن استمرار وجوه العهد السابق وأركان «التجمع الدستوري» في المرحلة الجديدة سيعيق التغيير الذي تحتاج تونس إليه برأيهم. أما الإسلاميون فينظرون إلى أبعد من ذلك، أي إلى إزالة الهوية المدنية والعلمانية التي حرص بن علي على المحافظة عليها، استكمالاً لإصلاحات الحبيب بورقيبة، لكنه أساء إليها كثيراً، حتى أفقدها قيم الحداثة والديموقراطية التي لا تستقيم الدولة المدنية من دونها، وذلك بسبب الفساد والقمع اللذين ميّزا معظم سنوات حكمه المديد. من المهم أن ينتبه الذين ينتظرون فرصتهم السانحة في تونس إلى أن النظام القديم لم ينهَر بالكامل. ما حصل في تونس لم يكن ثورة، ولم يكن من فضل فيها لأي من المتنطحين اليوم إلى ركوب الموجة. من المهم أن يتذكر هؤلاء أن الجيش لو شاء دخول ساحة المواجهة وإبقاء القديم على قدمه لما حصل التغيير الذي يحتفلون به، ولكان بن علي جالساً اليوم في قصر قرطاج. بمعنى ما كان الجنرال رشيد بن عمار هو الذي قطع لبن علي تذكرة السفر من دون عودة إلى الخارج، وهو الذي، بسلاح العسكر، وقف في وجه العصابات التي حاولت نشر الفوضى الأمنية في الأيام الماضية لاستعادة حكمها. فوق ذلك يسجّل للجيش التونسي انه رفض تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين في الشوارع، معتبراً أن دوره هو حماية الوطن لا المحافظة على النظام. من المهم أن يدرك معارضو النظام السابق أن أسس هذا النظام ما زالت موجودة، وفي طليعتها الحماية الأمنية التي يوفرها الجيش للحكم الجديد. فتربية هذا الجيش مدنية علمانية، ومن الصعب أن يتيح لأي اختراق إسلامي او يساري أن يستفيد من هذه الفرصة أو أن يركب موجة التغيير. أما إذا لم يدركوا هذا الواقع، فإن تونس ستكون مهددة بما شهدته دول أخرى، لم يبقَ فيها أمام الأنظمة سوى القوة الأمنية لحماية نفسها. في هذه الحال تكون «ثورة الياسمين» قد قضت على أحلامها بيديها.