لم يكمل جملته. ظل يحملق فيها وهي تقف أمامه وتنظر إليه بعينين اتسعتا ولمعتا في وجهها النحيل بشكل مخيف، لمحتهما في المرآة وهي تمشط شعرها في الصباح. أحست بالحيرة، بغلالة سوداء تلتف حولها، وتمنعها من إبداء رد فعل، باليأس الكامل الذي لا مخرج منه. سقطت من عينيها دمعة، فأحست بالخزي. نطرتها بعيداً بحركة عصبية من يدها كأنها تتحداه، ثم استدارت بسرعة وخرجت من الباب. سارت على الرصيف كالعمياء لا ترى شيئاً. تتفادى الناس السائرين، أو الجالسين أمام الورش، والمخازن والحوانيت بحركة غريزية. فكرت في أن تتجه كما أصبحت تفعل كل يوم إلى الفرن البلدي لتأخذ منه بعض الأرغفة التي لا تصلح للبيع، لكنها عدلت عن هذه الفكرة. شعرت أنها لم تعد قادرة على شيء، أنها تريد أن ترقد على الرصيف وتصرخ بأعلى صوت، أن تلقي بنفسها تحت إحدى السيارات لينتهي كل شيء. سمعت صوتاً ينادي عليها «نور.. نور». تجاهلته فعلا الصوت بإصرار. كان صوتاً رفيعاً اخترق أذنيها كالصفير الحاد، كالسكين المؤلم، والمريح لأنه انتزعها من الاحساس باعتصار قلبها تحت الضلوع، باليأس الكامل، بالانتهاء. التفتت. على مقربة منها كان يقف رجل أبيض نحيل. فوق شفته العليا شيء كالخط الأسود. أخذ ينظر إليها بمزيج من التردد، والفضول قبل أن تجري عيناه كالفأرين بسرعة على جسمها، لتعودا إلى ملامحها النحيلة. قال من دون مقدمات. «أنا أعرفك. اسمك نور مش كده؟ وإنت صحيح بنت زي النور. وأنا اسمي إسماعيل، بينادوني «سوسو». أنا صاحب محل الكوافير ده. وأنت كل يوم كنتي بتمري أدامه، لكن بقالك مدة مختفية. تعالي إشربي حاجة. باين عليكي تعبانة. ممكن أعملك قرفة سخنة، واللا كاكاو باللبن، وتستريحي عندي شوية». نظرت إليه كأنها لم تفهم ما قاله. قالت: «عايزة كاكاو باللبن». أمسك بيدها وجذبها برفق فخطت معه داخل المحل. كانت تجلس فيه امرأة منهمكة في تمرير مبرد على أظافرها المطلية بصبغة حمراء، فجلست فوق مقعد على مسافة منها. فيما بعد عندما سألها عزيز المغربي وهما جالسان على السلالم بعد أن أحضر لهما شاياً من البوفيه: يا نور ما الذي جعلك تسيرين في الطريق الذي سرتِ فيه..؟ سلطت عليه عينين صارتا مثل بئرين تغوصان في أعماق الظلام، وقالت: «كوب من الكاكو باللبن». * من رواية «نور» التي تصدر قريباً عن دار ميريت في القاهرة