من الواضح للعيان أن الإدارة الأميركية الجديدة ورثت عن سابقتها الكثير من الملفات والقضايا السياسية المعقدة، كما أنه من الواضح أيضاً أن الإدارة الجديدة تحمل رؤية سياسية مختلفة في ما يتعلق بكيفية التعاطي مع هذه القضايا. وتعتبر العلاقة بين أميركا وايران إحدى هذه المسائل الشائكة التي تحاول الإدارة الأميركية بلورة رؤية حولها، بيد أنها تدرك أن العلاقة مع ايران تتطلب التطرق إلى الوضع في العراق وافغانستان وفلسطين ولبنان، وهذا يجعل أي استراتيجية أميركية قادمة للتعامل مع ايران متعددة المحاور، وتحتاج إلى أن تصاغ بعناية فائقة، وهذا الواقع السياسي المر يزيد من القيود على واشنطن، ويفرض عليها تقديم تنازلات لإيران التي تضع نصب عينيها الموقف الأميركي من برنامجها النووي، نفوذها الإقليمي، العزلة الدولية المفروضة عليها، والعقوبات الاقتصادية الأخرى. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الشأن: ما شكل العلاقة المستقبلية بين ايران وأميركا، وفي أي اتجاه تسير؟ هل هناك صفقة تلوح في الأفق بين الطرفين، أم أن المد والجزر السياسيين بينهما سيستمران؟ لعل من نافلة القول الإشارة إلى أن مفردة «صفقة» التي بدأت تتردد في الأدبيات السياسية العربية منذ السنة الأخيرة للإدارة السابقة غير دقيقة. السبب في ذلك يكمن في أنها تتضمن إيحاء بالربح والخسارة، وهذا في اتساق مع مفهوم المعادلة الصفرية في العلاقات الدولية، حيث يكون ربح طرف خسارة للآخر، وبذلك تنتفي الحلول الوسطية إلى حد كبير، وهذا لا ينطبق على العلاقات الأميركية الايرانية في الوقت الحاضر، ولا ينطبق على إسقاطاتها الإقليمية؛ إذ يمكن القول أن الإدارة الأميركية هي في طور جمع المعلومات ووضع التصورات حول كيفية التعامل مع ايران، والربط بين علاقتها مع طهران وبقية الملفات في العراق وافغانستان بالمقام الأول، وأيضاً علاقة طهران مع دمشق ودعمها لحزب الله وحماس. أما في ما يتعلق بالعالم العربي، ولا سيما دول الخليج العربية، فإن التقارب الأميركي - الايراني يجعل القلق يساورها نظراً إلى ضعف وتفرق الموقف العربي بشكل عام، لكن يجب عدم تجاهل حدة الخلاف الأميركي - الايراني في مقابل المصالح الراسخة لأميركا في المنطقة. ومن ناحية أخرى يجب أن يكون التقارب الأميركي المحتمل مع ايران عامل إيقاظ للدول العربية للبحث عن استراتجية جديدة، تتجاوز التعويل على العداء الأميركي - الايراني، بحيث ترتكز على تعزيز المصالح العربية العليا وتوحيد المواقف لتحسين موقع هذه الدول على الخريطة السياسية الإقليمية، وعدم البقاء تحت رحمة المطرقة الايرانية والسندان الأميركي. كما أن السياسة الخارجية الأميركية الجديدة ترتكز على تحقيق توازن استراتيجي في علاقاتها المتشعبة مع العالم؛ إذ تحاول من ناحية تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع الأصدقاء والحلفاء الإقليميين، وأخذ وجهات نظرهم بالاعتبار قدر الإمكان، وتحاول من ناحية أخرى أن تتبع سياسة تمزج بين الواقعية والمثالية للتعامل مع الدول الخلافية: حيث يتم استخدام ما وصفتها وزيرة الخارجية الأميركية ب «القوة الذكية»، التي تعتمد على القوة الصلبة والقوة الناعمة في آن واحد. وهذا ما هو حاصل الآن مع ايران حتى هذه اللحظة، إذ تحاول واشنطن استكشاف إلى أي مدى يمكن التعامل مع ايران للحصول على تعاونها في العراق وافغانستان بالمقام الأول، من دون التخلي عن معارضتها للبرنامج النووي الايراني وحثها ايران على دعم الاستقرار الإقليمي، وتمت ترجمة هذا التوجه من خلال تبادل الزيارات العلمية والثقافية بين ايران وأميركا، ورسالة المعايدة التي أرسلها الرئيس الأميركي للشعب الايراني في عيد النيروز، ويتم ايضاً درس مدى تقبل ايران لحزمة من الحوافز الغربية نظير تخلي ايران عن نشاطها النووي. طهران من ناحيتها لا يخفى عليها ما تملكه من نقاط مساومة في المنطقة، ومدى حذّة المأزق الذي تعيشه أميركا في منطقة الشرق الأوسط، لذلك فهي تحاول المناورة ومعرفة مدى جدّية وصدقية الإدارة الأميركية الجديدة من ناحية، ومدى حزمها من ناحية أخرى. وهكذا يصبح عنوان المشهد السياسي بين واشنطنوطهران هو شراء الوقت لمعرفة نوايا الطرف الآخر وتوجهاته، ومحاولة تحقيق كل طرف أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية في ظل سياق زمني محدد، قبل الوصول إلى تصور نهائي حول طبيعة وشكل العلاقة وإلى أي مدى سوف تذهب. من هنا يمكن القول أن الهدف هو ليس تحقيق صفقة بقدر ما هو الوصول إلى تفاهمات معينة، تعتبر السقف الأدنى المقبول والمرضي بالنسبة إلى متطلبات السياسة الخارجية الأميركية المتعددة المحاور في المنطقة. لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، وكلما دعت الحاجة إلى زيادة سقف التفاهمات كلما تعاظمت صعوبة تحقيق ذلك، ناهيك عن أن جزءاً كبيراً من ذلك يرتبط بتطور وسياق الأحداث على مسرح العمليات في العراق وافغانستان. ففي العراق تبدأ واشنطن سحب قواتها من المدن بداية هذا الصيف، بينما بدأت بتطبيق استراتيجيتها الجديدة في افغانستان، التي عمودها الفقري تعزيز الوجود العسكري الأميركي وكذلك تعزيز قوات «الناتو» في افغانستان، والعمل على دعم قدرات الجيش الباكستاني من ناحية أخرى وتقديم مساعدات اقتصادية لها في مواجهة جيوب طالبان والعناصر الباكستانية المناصرة لها. الأشهر المقبلة ستكون كفيلة للحكم على التوجه الذي ستسلكه العلاقة بين واشنطنوطهران، والتي سيتم خلالها ترجمة هذه المقاربة السياسية إلى استراتيجية فعلية، لكنه من المحتم أنها بحاجة إلى استراتيجية عربية موازية وطويلة الأمد، لا ترتكز على منطق المعادلة الصفرية، بقدر ما تهدف إلى التعامل الكلي مع ايران وأميركا، أياً كان شكل العلاقة وطبيعتها بينهما. [email protected]