هناك من يكتب السيرة الذاتية ملتزماً بقواعدها الفنية التي يصر النقاد على اتباعها، وهنالك من يكتبها بعفوية وشفافية ربما تشّد القارئ إليها أكثر من الأخرى ذات المواصفات النقدية، وهذا ما وجدته في كتاب الأستاذ الزميل - عمرو العامري- «ليس للأدميرال من يكاتبه» مذكرات ضابط سعودي. حقيقة لم أكن في البداية متحمسة لقراءتها ليس لترصدي الظني لخلل في سرديتها، فأنا أعرف كاتبها جيداً لقراءتي له سابقاً في كثير من كتاباته السابقة من خلال مجموعته القصصية الأولى (طائرالليل) ومن خلال كتاباته الجديدة على صفحات صحفنا المحلية سواء في مجال القصة أو النصوص الأخرى النثرية، ومن خلال مداخلاته التي يشارك بها على مستوى الملتقيات الثقافية المحلية، أو المنتديات الألكترونية الأدبية، ولكن صور غلافها الجامدة الدالة على رجل عسكري صارم الملامح، جعلني أحكم ضمناً بأنها ربما تكون منصبّة على أحداث عسكرية بحتة خصوصاً وكاتبها برتبة عميد بحري/ ركن، متقاعد. ولن تكن مشوقة بالنسبة إلي كبقية السير الذاتية التي قرأتها سابقا مثل - حكاية الحداثة - للدكتور عبد الله الغذامي، أو- حكاية الفتى مفتاح- للأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، أوشذرات منها كما في كتاب الراحل الدكتور غازي القصيبي- حياة في الإدارة- وأخرى تراثية قديمة. لم تكن أجمل ولا أروع من مذكرات الكولومبي النوبلي (غابرييل غارسيا ماركيز) في سيرته الذاتية المعنونة ب(نعيشها لنرويها) فإنني وفي لحظة ما، قررت أن أقرأها ربما بدافع الفضول والاكتشاف لحياة رجل عسكري غير الرجل الأديب والمثقف الذي عرفت. وما أن بدأت في قراءتها حتى وجدت نفسي مشدودة معها من أول سطر فيها حتى نهايتها التي استغرقت مني ليلتين كاملتين، فقد أدهشتني أحداثها المثيرة من الطفولة، إلى الشباب، إلى الغربة، بكل تجليات الكاتب وكأني أعيش معه فشله، ونجاحه، وإحباطاته، وانتصاراته، واكتشفت عوالم رجال البحرية من خلال عمله كضابط بحري لا يكاد يستقر في مكان حتى ينتقل إلى آخر. ما أعجبني في سيرة زميلنا - عمرو- شفافيته الصادقة، ولغته البسيطة، وآراؤه الجريئة المنفتحة على الواقع الذي عاشه، ويعيشه، بصراحة المثقف الأمين على نفسه، إذا إن الكثير من كتاب السيرة الذاتية يحرصون على الانتقائية خصوصاً فيما يتعلق بحياتهم الخاصة، وتخوفهم من مغبة ما سيكون عليها من ردود أفعال ربما تكون صادمة لهم من خلال تعاطي المجتمع معها سلباً، فيتمخض عنه موقفهم ضد الكاتب، من خلال وجهات نظرهم المختلفة. لكن الأستاذ عمرو لم يلتفت لهذه الانتقائية فتدفق في صدقه، بعمق قامة ذلك القروي القادم من قرية جنوبية نائية في المكان، وغائبة عن الزمان، يضيئها وجه أمه، وصحو أبيه، لكنها ظلت تعانق تحولاته الحياتية، لتغسله وهو في عز تمدنه فتغسله بالحنين، والبساطة، والمناعة من التلوث الذاتي في صخب المدينة ومغرياتها. أما علاقته بالمرأة واحترامه لها فقد بدأت مع أمه، تلك التي رحلت عنه وهو في سن صغيرة فخلفت في قلبه فراغاً يقول عنه: «بقيت أبحث عن عزاء في وجوه تتشابه كثيراً لكنها ليست كوجه أمي». وتتجلى بشجاعة كبيرة في اعترافه بأنه هو المخطئ في فشل زواجه الأول واحترامه لمطلقته، وحبه وتقديره، وتكريمه لرفيقة دربه وشريكة حياته «وفاء». وعموماً السيرة زاخرة بكثير من الأحداث الاجتماعية، والسياسية الهامة التي تؤرخ لمرحلة تمتد مابين الثمانينات إلى تأريخنا الحاضر، وسيجد فيها القارئ المتعة، والدهشة، والإثارة، والصور الفوتوغرافية الداعمة للأحداث، والكثير من المحطات المؤثرة في حياة الكاتب. [email protected]