كان محمد كرد علي (عام 1876)، أحد ورثة الإصلاحية الإسلامية. طالب المستشرقين بالإنصاف والموضوعية، واستفاد هو ومجايلوه مما اعتبروه إيجابياً في بحوثهم ودراساتهم، مثل نشر النصوص، والقراءات الشاملة للحقب التاريخية، ومتابعتهم لأحوال المسلمين الفكرية والثقافية في العصر الحديث، والعناية باللغة العربية، وترتيب معجم تاريخي لها. وقد قام بثلاث رحلات إلى أوروبا، أولها شتاء 1908- 1909، والثانية شتاء 1913-1914، والثالثة عام 1940، ومن ثم سجل ملاحظاته عما رآه وسمعه في أوروبا. وقد نشر تلك الملاحظات في كتاب (في جزأين) تحت عنوان «غرائب الغرب»، فوصف مضمون هذه الملاحظات بقوله: «أنا على مثل اليقين بأنها لا تحمل في مطاويها من تلك المدينة الساحرة إلاَّ بقدر ما تصل إليه يد عابر سبيل ويتفطن إليه فكر النزيل الدخيل». يقول في مقدمة كتابه «غرائب الغرب»: «كان من أعظم أماني النفس منذ بضع سنين، أن أرحل إلى أوروبا رحلة علمية أقضي فيها ردحاً من الدهر، للتوفر على دراسة حضارة الغرب في مبعثها، واستطلاع طلع المعاهد التي منها نشأ المخترعون والمكتشفون، والفلاسفة المنزهون، والعلماء العاملون، والساسة المستعمرون، والقادة الغارون، والنجار والصناع والزراع والماليون، وهم على التحقيق مادة تلك المدنية وهيولها». منذ دخل مرسيليا انطلاقاً، عرف الفارق الهائل بين بلاده وأوروبا، فكتب: «ومن الأسف العظيم أننا لو أحصينا عدد ما يصدر من جميع الجرائد والمجلات العربية والتركية والفارسية في البلاد المصرية والعثمانية والإيرانية، لا يبلغ بكميته قدر ما تطبع كل يوم جريدة «البتى مارسيلية» إحدى جرائد ولايات فرنسا، وعلى هذه النسبة قس ولا تخف، درجة ارتقائنا وارتقاء الفرنسيين، وسجِّل علينا الفقر المدقع في كل شيء، لا سيما في الأمور العقلية». ولخَّص في وصفه لباريس نظرته إلى أوروبا كلها، فأمام باريس امتزج في ندائه الإعجاب بالدهشة بعرفان الجميل لما قدمته باريس للبشرية من مبادئ جديدة عنوانها العدل والمساواة ورفعة قيم الإنسان والعقل، فيقول: «سلام عليك مرضعة الحكمة، وربيبة الرخاء والنعمة، وروح الانقلابات الاجتماعية والسياسية، ومحيية المدنية الأصلية في الأقطار الغربية والشرقية، ومعلمة العالم كيف يكون الخلاص من الظالمين وأنى يضرب على أيدي الرؤساء والنبلاء والمالكين، أنت هذبت طبائع البشر حتى غدوا يشعرون باللطف والذوق وفائدة العلم والعمل، أنت كنت في مقدمة العواصم التي انبعث منها تمجيد العقل، بل تأليهه، فقضيت بالتقدم له على كل شيء في الوجود، وبالغت في إكرام رجال العقول من أبنائك. سلام عليك يا عشيقة الإبداع والاختراع، وسابقة الأقران في مضمار الانتفاع بما حوت الرباع والبقاع. استخدمت القوى المادية فأجدت استخدامها، واستثمرت القوى العقلية فأبدعت في استثمارها، وأحييت حضارات الأمم السالفة، وأنشأت لك حضارة لا يزال يحسدك عليها أسبق الشعوب إلى الترقي مهما تقلبت بك الأحوال... سلام عليك يا واضعة حقوق الإنسان، وملحقة الأذهان بالتناغي بحب الأوطان، والداعية إلى ثل عروش الجبارين والمخربين. أنت لم ترهبك تقاليد أبطال العصور الوسطى، ولا بطش الباطشين من المُحافظين عليها، ولم تعلقي مسائلك على القضاء والقدر، بل أخذت بالأسباب والمسببات». كتب معترفاً بفضلها: «فإن قلنا، معاشرَ الشرقيين، لا سيما سكان الشرق الأقرب، أنا نأخذ عن المدنية الغربية، فإنما نعني المدنية الفرنسوية، وبعبارة أخرى المدنية التي تنبعث أشعتها من باريس، ومن طريقها وبلغتها وأسلوبها تيسر لنا أن نستطلع طلع سائر مدنيات الأرض». حول الاستشراق ولاحظ رغبة بعض المثقفين الفرنسيين والأوروبيين في التعرف الى العرب، وأن معرفتهم تطلبت منهم معرفة لغتها ودراسة تاريخها وآدابها، «وأطلقوا على تعلُّم هذه اللغات وما يتعلق بها «علم المشرقيات» أو «علم الاستشراق»، وعلى المشتغلين بها علماء المشرقيات أو المستشرقين، وقديماً كان العارفون من أهل هذا الشأن من الفرنسيس، ممن أكثر من غيرهم، وقد أصبحوا اليوم وأكثرهم من الألمان، والألمان أمهر الغربيين في النطق باللسان العربي وأكثرهم نبوغاً فيه». واعتبر أن الاستشراق الحديث قدّم دراسات منصفة للحضارة العربية الإسلامية، فجاء في كتابه «الإسلام والحضارة العربية»: «أخذ أبناء الغرب يتمتعون بعد القرن السابع عشر بحرية الفكر والوجدان، فنشأت فيه طائفة من العلماء تمّ لها معظم أدوات الفضل، وقد راعها ما شاهدت وحققت، فردّت أقوال من ظلموا العرب والإسلام، متوخية كشف القناع عن وجه الصواب...». ونصح قومه ب «أن نعذر المُنابِذ المعتدل إذا كان يؤمن بما يقول، ونشكر للموافق العادل الذي يصدر رأيه عن عقيدة واقتناع، وعلينا أن لا ننسى أيضاً أن مجتمعنا ما كان في الحقيقة في عامة أدواره وأطواره فائضاً بالعدل والتسامح». وأطرى دور المستشرقين في إحياء الكتب التراثية العربية والإسلامية، فهو رأى أنه «يرجع الفضل الأكبر في انتشار دواوين الأدب والتاريخ واللغة مِن كتبنا لعلماء من الغربيين، أمثال دوزي ودساسي ووستنفيلد وعشرات غيرهم من أهل أوروبا». ولقد زار الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية عقب رحلته الأولى لفرنسا، وذلك في عهد تركيا الفتاة 1909، فرأى أن الفارق الكبير بين باريس وبين الآستانة كالفارق بين الانحطاط والحضارة، فالآستانة «عمرانها صورة مكبرة عن عمران الولايات (العثمانية)، لا نظام، ولا شوارع منظمة، ولا طرق مُعبدة، ولا راحة للراكب والسائر، ولا للمقيم والنازل، وغاية ما فيها من مصانع، وآثار قصور السلاطين والجوامع الكبيرة الزاهية التي أنشأوها منذ عهد محمد الفاتح إلى يومنا هذا، وبعض ثكن ومدارس عالية حديثة لا شأن لها من حيث فن البناء». أما عن الروح المتحكمة في ساكنيها، فيرى أن «الآستانة من هذه الوجهة مدينة الاتكال المجسم، يعيش أهلها كالحلمة الطفيلية على عنق الولايات»، لهذا تمنى لو أنه بدأ رحلته من الآستانة وأنهاها في باريس، فلقد أمضى فيها عشرين يوماً، وكان يتكاره «في الاختلاف إلى المعاهد والناس، إذا سئِمَتْ نفسي ذلك بعد باريس، التي رأيت فيها من كل شيء أحسنَه، ومن العالم أرقاهم، ولطالما اسودت عاصمة بلادي في عيني، ووددت على الأقل لو كُتبَ لي أن أزورها قبل الرحيل إلى الغرب، وإمتاع النظر والحواس بحضارته البهجة، حتى لا أرى الانحطاط بعد الرقي ولا الظلام بعد النور». * كاتب سوري