دخل لبنان الى المجهول أمس بعد إسقاط المعارضة حكومة الرئيس سعد الحريري الثلاثينية، فيما كان مجتمعاً مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في واشنطن، باستقالة الوزراء العشرة الذين يمثلون أطرافها زائد الوزير الشيعي السادس المحسوب على حصة رئيس الجمهورية عدنان حسين الذي استجاب الى الموقف المعارض حسبما هو منتظر، ما أدى الى اعتبار الحكومة مستقيلة حكماً وفق الدستور نظراً الى استقالة أكثر من ثلث أعضائها. وإذ أدخل هذا التطور لبنان في نفق أزمة سياسية يصعب تحديد نهايته، فإن المرحلة الجديدة من الأزمة السياسية التي يعيشها منذ أشهر نتيجة الخلاف على المحكمة الخاصة بلبنان، والتي ينتظر أن يسلّم المدعي العام فيها القاضي دانيال بلمار القرار الاتهامي الى قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين قريباً ليدرسه، استنفرت القوى السياسية الداخلية والاتصالات الدولية والإقليمية والعربية. وعلمت «الحياة» أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بدأ منذ ليل الإثنين الماضي بعد تبلغه من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أن المبادرة السعودية – السورية لم تصل الى نتيجة، وأنه سحب يده من الاتصالات في شأنها، اتصالات من أجل عقد اجتماع فرنسي – أميركي – سعودي – سوري – لبناني، وأنه اقترح الفكرة على خادم الحرمين فوافق عليها، وأن اتصالات لاحقة استمرت على قدم وساق لإضافة كل من تركيا وقطر الى الدول الخمسة الأولى مع احتمال ضم مصر الى احتمال كهذا (لم يتأكد بعد) من أجل البحث في الوضع اللبناني حصراً. وبينما أعلن المكتب الإعلامي للحريري أنه توجه من واشنطن الى باريس للقاء الرئيس ساركوزي، بعد لقائه أوباما لمدة 40 دقيقة، قالت مصادر واسعة الاطلاع ل «الحياة» إن اتصالات عدة جرت ليل أول من أمس لمحاولة احتواء التأزم اللبناني، وأن كلاً من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أجريا اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد من أجل بذل جهوده كي لا ينفذ قادة المعارضة قرارهم باستقالة وزرائهم، وأن الأسد لم يعد بشيء وبأنه سيحاول «لكن الأمر بات لبنانياً - لبنانياً، بعد توقف الجهود السعودية – السورية»، وفق قول مصادر لبنانية اطلعت على نتائج هذه الاتصالات. إلا أن وزراء المعارضة العشرة اجتمعوا وفق ما هو مقرر منذ أول من أمس، في الرابعة والنصف بعد الظهر في دارة رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» النيابي العماد ميشال عون، في حضور عدد من رموز المعارضة. وقرأ وزير الطاقة جبران باسيل باسمهم بيان الاستقالة الذي استهله ب «الشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس السوري بشار الأسد على الجهود التي بذلاها لمساعدة لبنان على تخطي الأزمة الناجمة عن عمل المحكمة الدولية». وأعلن أن الوزراء العشرة «يأسفون لتفويت الفرص التي أتيحت لإنجاح هذه الجهود... نتيجة رضوخ الفريق الآخر للضغوط الخارجية، لا سيما الأميركية منها متجاهلاً نصائح وتمنيات الطرفين السعودي والسوري». وبرر باسيل الاستقالة ب «إصرار الفريق الآخر على رفض الاحتكام الى مجلس الوزراء لحل الأزمة، ولإفساح المجال أمام قيام حكومة جديدة قادرة على تحمل مسؤولية المرحلة». وكان قادة المعارضة طالبوا رئيس الجمهورية ميشال سليمان ليل أول من أمس بالدعوة الى عقد جلسة لمجلس الوزراء الخامسة عصر أمس الأربعاء للبحث في بند وحيد هو الموقف من المحكمة الدولية، إلا أنه استمهلهم كي يعود رئيس الحكومة من الولاياتالمتحدة، لكن النائب سليمان فرنجية دعاه الى تجاوز رئيس الحكومة في الدعوة الى الجلسة فرد سليمان مؤكداً أن جلسة مجلس الوزراء لا يمكن أن تُعقد بغياب رئيس الحكومة، فقرر قادة المعارضة إمهال رئيس الجمهورية حتى بعد ظهر اليوم. وفيما كان وزراء المعارضة مجتمعين أمس تمهيداً لإعلان استقالتهم، أبلغ عدد منهم «الحياة» أن استقالة الوزير عدنان السيد حسين مضمونة الى جانبهم بحيث تصبح الحكومة بكاملها مستقيلة. وكان الأخير انتقل ظهراً الى القصر الرئاسي حيث التقى الرئيس سليمان وانتظر إعلان الوزراء العشرة استقالتهم في الخامسة والدقيقة العاشرة ليعلن هو استقالته زهاء الخامسة والنصف، مبرراً إياها في الكتاب الذي رفعه بفشل الحكومة «في الاستجابة لأولويات المواطنين لأن موقعي كوزير توافقي يحتم علي الانسجام مع هذه المهمة». في موازاة ذلك كان الحريري يبدأ لقاءه مع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض في واشنطن، وعلمت «الحياة» أن الجانب الأميركي أبلغ الحريري دعمه للجهود الفرنسية التي تُبذل، وكذلك للمحكمة. وأكد البيت الأبيض في بيان بعد اللقاء أن أوباما «أشاد بقيادة رئيس الوزراء الثابتة وجهوده للوصول الى سلام واستقرار وتوافق في لبنان في ظل الظروف الصعبة»، واعتبر أن «جهود التحالف الذي يقوده حزب الله لإسقاط الحكومة تظهر فقط خوفهم وإصرارهم على منع الحكومة من القيام بعملها والدفع قدماً بطموح الشعب اللبناني». وأشار البيان الى أن الزعيمين «أكدا الالتزام بتقوية وسيادة لبنان واستقلاله، وتطبيق جميع القرارات الدولية واستكمال الشراكة الواسعة والبعيدة الأمد بين الولاياتالمتحدة ولبنان». وأوضح البيان أن الاجتماع «شدد على أهمية عمل المحكمة الخاصة بلبنان كوسيلة للمساعدة في إنهاء حقبة الاغتيالات السياسية من دون عقوبة»، لافتاً الى أن أوباما والحريري بحثا «تحديداً بالجهود الموحدة مع فرنسا والسعودية وأطراف دوليين محوريين ولاعبين إقليميين لاستتباب الأمن في لبنان وضمن عمل المحكمة من دون إعاقة من طرف ثالث». واختتم البيان بالتأكيد أن الجانبين جددا «إصرارهما على العمل لتحقيق الاستقرار والعدالة في لبنان خلال هذه المرحلة من التحديات والحكومة المتأرجحة، واتفقا على أن جميع الأطراف يجب أن يمتنعوا عن التهديد بأفعال قد تزعزع الاستقرار». ووصفت مصادر الاجتماع ب «الجيد جداً» على مستوى الالتزام الأميركي بدعم لبنان وافق الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد. وأكدت أن أوباما «نقل دعماً شخصياً وحكومياً للحريري ولبنان». ولم يبد الجانب الأميركي أي مخاوف بحسب المصادر، حول «تدهور الوضع الأمني» في لبنان، بل «أشاد بقيادة الحريري وافق المرحلة المقبلة». وأكدت مصادر أميركية موثوقة ل «الحياة» أن أول مهمات السفير الأميركي الجديد لدى سورية ستيفن فورد، والمتوقع أن يصل دمشق قبل نهاية الشهر، هو موضوع المحكمة الخاصة بلبنان. وأكدت المصادر أن إدارة أوباما «مستاءة من المواقف السورية حول المحكمة الخاصة بلبنان. وأكدت أن إدارة أوباما «مستاءة من المواقف السورية حول المحكمة» وتريد «فتح خط اتصال مباشر مع الرئيس السوري بشار الأسد من خلال فورد، وليس فقط من خلال الخطوط التقليدية في واشنطن ومن خلال وزير الخارجية وليد المعلم والتي كانت معتمدة في الخمس سنوات الفائتة». وفي انقرة، حذّر وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره التركي أحمد داوود أوغلو في أنقرة، من أن تؤدي الاستقالة الى انقسام الدولة بما يشمل تهديداً للشرق الأوسط». وفي الدوحة، شكلت الأزمة اللبنانية العنوان الأبرز في محادثات أجرتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون مع أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ومع رئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني. وشددت كلينتون، في مؤتمر صحافي مساءمع الشيخ حمد بن جاسم، على أن الشعب اللبناني يستحق العدالة والاستقرار. وقالت: «إننا نتشاور مع الاصدقاء في سبيل دعم لبنان وسيادته». وشددت على «أن عمل المحكمة الدولية في شأن لبنان يجب أن يمضي قدما لتحقيق العدالة»، مكررة موقف واشنطن «الرافض للافلات من العقاب»، واعتبرت أن محاولة اسقاط الحكومة اللبنانية لتقويض المحكمة، مشيرة الى دعم الأممالمتحدة ومجلس الأمن لعملها. ونوه رئيس الوزراء القطري بدور السعودية في شأن لبنان. وقال: «مازلت متأكدا أن الملك عبد الله بن عبد العزيز سيواصل مسعاه وسنقوم كلنا بالمساعدة...نثق بالملك عبد الله، فهو يريد حلا عادلا». واعلن الشيخ حمد بن جاسم:»لا نفكر في دوحة 2، بل نفكر في اتفاقي الدوحة والطائف وتفعيلهما». ودعا اللبنانيين الى تغليب مصلحة لبنان والوصول لحل، مؤكدا «أننا لا نريد أن يتضرر أي طرف في لبنان وما زلنا نتمنى تجنيب لبنان منزلق من أي نوع». وسئلت كلينتون عن سورية، فأشارت الى «تاريخ متشعب طويل بين سورية ولبنان»، لكنها أكدت على أن (استقرار لبنان) من مصلحة الجميع سواء في لبنان أو سورية أو الجيران. وقالت: «من الضروري التركيز على مبدأ أساسي، وهو أن لبنان دولة مستقلة ذات سيادة»، ودعت الى تمكين الشعب اللبناني من دون تدخلات خارجية، ودعت الجميع الى دور ايجابي ومسؤول تجاه لبنان. ولفتت كلينتون الى أن أميركا أيدت الجهود التي قامت بها السعودية في سبيل التوصل لتفاهمات في لبنان. وقالت: «للأسف لم تكن هناك استجابة ايجابية لكل الجهود السعودية»، مشيرة الى أن الفرقاء اللبنانيين، وبينهم «حزب الله»، كانوا وافقوا على دعم المحكمة. وأكدت أن هناك قرارات ظنية ستصدر قريبا ويجب أن يمضي هذا المسار. وفي نيويورك، قال الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة مارتن نازركي إن الأمين العام بان كي مون «أوضح تماماً وبصورة متماسكة أهمية استقلالية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان»، وأن «هذا يبقى سارياً الآن» بعد استقالة وزراء المعارضة وإسقاط الحكومة اللبنانية. وأكد الناطق أن الأمين العام «يراقب عن كثب التطورات في لبنان»، وأنه بحث موضوع لبنان مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليل أول أمس الثلثاء عندما زاره في فندق «بلازا». وأصدر مكتب الناطق باسم الأمين العام بياناً بعد اللقاء جاء فيه أن بان عبّر للملك عبدالله عن «تقديره لجهود المملكة العربية السعودية لدعم الاستقرار في لبنان وفي المنطقة». وتابع البيان أن الطرفين ناقشا «مكافحة الإرهاب، الحوار بين الأديان، عملية السلام في الشرق الأوسط ولبنان» باعتبار هذه المسائل مهمة لهما معاً. وفي ما يخص تأثير إسقاط الحكومة اللبنانية على أمن وسلامة قوات «يونيفيل»، قال نازركي: «قوات يونيفيل جاهزة ومؤهلة للتعاطي مع أي مستجدات، ودورها محدد في لبنان لكنها بدورها تراقب التطورات وتقوّمها». وأصدر الناطق لاحقاً بياناً جاء فيه: «يشدد الأمين العام على أهمية الحفاظ على الهدوء، ويدعو الى المضي في الحوار بين جميع الأطراف والى احترام الدستور والقوانين اللبنانية، وهو يعيد تأكيد دعمه الكامل لعمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان». وكان التأزم السياسي اللبناني استنفر الاتصالات والمواقف واللقاءات منذ صباح أمس. فشدد رئيس البرلمان نبيه بري على أن «لعبة الدول الكبرى كانت أكبر من الإرادة الصادقة لخادم الحرمين الشريفين والرئيس الأسد للوصول الى تسوية للأزمة القائمة»، معتبراً أن «أي خطوة يجب أن تكون في إطار الممارسة الديموقراطية ووفق القواعد الدستورية». واجتمع رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط مع البطريرك الماروني نصرالله صفير وأعلن أنه «حصلت اختراقات كبيرة في التسوية لتفادي المضاعفات السلبية لقراراتها قد يصدر في أي لحظة». لكنه أشار الى «إشكال في سوء الاتصال والى خلل تقني حول من يقدم قبل الآخر»، سائلاً: «لماذا اليوم لا نستطيع أن نتحدث مع بعضنا البعض؟». واتهم «قوى ظلامية دخلت وعطلت الجهد السعودي – السوري الجبار». وعقد اجتماع لكتلة «المستقبل» النيابية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة حضر جانباً منه وفد من «قوى 14 آذار»، وأعلن بعده وزير العمل بطرس حرب أن «لا مجال للمساومة على موضوع المحكمة والعدالة». وأكد أن «قوى 14 آذار ستتداول مع الرئيس الحريري بعد عودته ومع الرئيس سليمان بالتطورات». وأكد الرئيس السابق أمين الجميل أن «المسار الذي تنتهجه بعض القوى، لا سيما «حزب الله» كان واضحاً بأنهم سيوصلوننا الى هذه المرحلة من التعطيل والمواجهة»، فيما رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن «معنى التسوية بالنسبة الى قوى 8 آذار هو أن يعلن الحريري أنه لا يريد المحكمة. وقال إنه «لن تكون هناك دوحة – 2 ولن تكون مكاسب سياسية وراء أي ضغط». أما على صعيد المعارضة فقد علمت «الحياة» من مصادر قيادية فيها أن قادتها كثفوا المشاورات بين بعضهم بعضاً تمهيداً لاجتماع موسع لقادتها ومختلف تياراتها، يتم التحضير له بين الأقطاب الأربعة، بري، الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله، العماد عون والنائب فرنجية، للتفاهم على الخطوات اللاحقة وعلى تسمية مرشحها لرئاسة الحكومة على رغم أنها لا تتوقع أن يسارع الرئيس سليمان الى تحديد موعد في الساعات المقبلة لبدء الاستشارات النيابية الملزمة لاختيار رئيس الحكومة العتيد.وكشفت المصادر أن سليمان صارح وفد المعارضة الذي زاره أول من أمس بأنه سيأخذ وقته قبل أن يدعو للاستشارات النيابية الملزمة. وأكدت هذه المصادر أن سقف التحرك للمعارضة «سيبقى سياسياً حتى إشعار آخر»، ولفتت الى أن بعض القوى الرئيسة فيها سيتواصل مع النائب جنبلاط «بغية إيجاد مساحة مشتركة بينهما». ويفترض أن يؤدي إسقاط الحكومة التي تشكلت في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، بعد أن استغرق تشكيلها برئاسة الحريري زهاء 5 أشهر (اعتذر نتيجة صعوبات تأليفها وأعيد تكليفه)، الى إقدام الرئيس سليمان على تكليفها بتصريف الأعمال بعد صدور مرسوم اعتبارها مستقيلة، ليحدد موعد استشارات نيابية من أجل تسمية الرئيس الجديد للحكومة. وكان اتفاق الدوحة الذي تتمسك به المعارضة نص في بنده الثاني (في أيار/ مايو 2008) على أن «تتعهد الأطراف كافة بعدم الاستقالة من الحكومة أو إعاقة عملها».