في ما يعود الى المنهج في العمل التاريخي، أحاول على الدوام تناول الموضوعات من أعرض الزوايا وأوسعها تلافياً للوقوع تحت أثر الآلام والاهواء التي يبعثها النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني. واخترت، على هذا، معالجة «مسألة فلسطين» (على ما وسمت كتابي في 3 أجزاء)، وتفاديت «تاريخ فلسطين» أو «تاريخ النزاع الاسرائيلي – العربي». ويتيح لي هذا تناول الادوار المتفرقة والكثيرة، المحلية والاقليمية والدولية، كما يتيح تناول الخلافات على الارض، وهي وجه بارز من وجوه المسألة، وعنصر دولي حاسم يقتضي الرواح الى البيت الابيض وحديقته طلباً للمفاوضة الجدية عليه. ولا ينبغي اغفال الضحايا والآلام الناجمة عن النزاع. وقد يرى المرء أن ما يحصل في أفريقيا، في كيفو (الكونغو) أو دارفور، ليس أقل وطأة مما يصيب ضحايا النزاع هذا. والحق أن هذه النزاعات تبعث ذيولاً وملابسات كتلك التي تبعثها مسألة فلسطين. وأنا انحاز الى معالجة عريضة على أمل التقليل من ثقل التداعيات المباشرة والحادة. وأحسب من وجه آخر أن اصحاب الادوار المحليين يتمتعون بالاستقلال عن الدول الكبيرة. والمحادثات بين أناتولي دوبريتين، سفير الاتحاد السوفياتي في واشنطن من 1962 الى 1986، وبين هنري كيسنجير، وهي نشرت في الولاياتالمتحدة أخيراً، هذه المحادثات دليل على اصطدام نفوذ الدولتين العظيمتين بحدود نفوذهما على الدول الصديقة والصغيرة. فمن ناحية، يحاول كيسينجر حمل السوفيات على التأثير في سياسة هانوي بفيتنام الشمالية. وهذا ما يبدو السوفيات قاصرين عنه. فالفيتناميون هم أصحاب الكلمة الفصل ميدانياً. ويريد دوبريتين من واشنطن مزاولة نفوذها على سياسة اسرائيل، حين تفتقر واشنطن الى وسائل الاستجابة. وفي آخر المطاف، يتحكم الحلفاء المحليون في القوى الكبرى فوق ما تتحكم هذه في سياسة حلفائها، وهي أسيرة سياسة الحلفاء في الغالب الأعم من الاحوال. وسعيت في فحص المسألة في اطارها العام، أبعد من الاطار الشرق الاوسطي، وسميتها «مسألة التدخل والانخراط»، ونبهت الى أثر الأدوار المحلية في «القوى الخارجية» الفاعلة في المنطقة وتوريطها. وعند تناول الازمات ودراستها يلاحظ الدارس أن التدخل والانخراط يؤديان، في أحيان كثيرة، الى أخطاء جسيمة في التقدير. وأجود الدراسات التي تعقبت أسباب حرب حزيران (يونيو) 1967 تشدد على اخطاء التقدير هذه، وعلى استواء الاطراف في ارتكابها من غير تمييز. واليوم، يقود السؤال عن مسؤولية اصحاب الادوار الى ملاحظة الاخطاء التي راكمها أصحاب القرار المتوفون والضالعون في الازمة فوق ما يقود الى تشخيص ارادة مدركة تسعى في افتعال ازمة. وعلى رغم تفاوت الافتقار الى مصادر عربية رسمية، قياساً على غزارة المصادر الاسرائيلية، لا يعدم الباحث وسائل تعوض قلة الوثائق. فالسيرة السياسية العربية متوافرة وكثيرة. ولكن، لا شك في نضوب الوثائق والملفات في الانظمة المستقرة والمتسلطة والمحافظة. وفي متناول المؤرخين مادة مصرية غنية جداً، في ما يعود الى عبد الناصر والسادات وعهديهما. ولعل السبب في ذلك وفاتهما. ومنذ وفاتهما، عمد عدد كبير من المسؤولين والضالعين في القرارات وأصحاب الولايات في العهدين الى نشر مذكراتهم. والقيود على الرأي اثقل في اثناء حياة صاحب العهد. والسير الخاصة والذاتية في سورية نادرة. ونحن ننتظر نشر مذكرات عبد الحليم خدام، وزير الخارجية السابق، وهو وشيك على ما يقال. ويفترض في هذه المذكرات أن تذيع معلومات عظيمة عن الأعوام التي تولى في أثنائها وظيفته. ولا يكاد ينقضي أسبوع واحد في العالم العربي من غير نشر مذكرات. ونفتقر فعلاً الى معلومات عن الحركات السياسية الفاعلة في إطار الدول، مثل «حماس» و «حزب الله». وليس في متناولنا، عموماً، وثائق داخلية. والادقاع في الوثائق المكتوبة يعوضه انخراط الباحثين في البحث الميداني والحقلي الاجتماعي والسياسي انخراطاً عميقاً. وهؤلاء يتولون جمع مقابلات لا تحصى، وغنية المادة، مع ناشطي هذه المنظمات. فبعض الباحثين يراقب «حماس»، منذ ولادة الحركة. وهم يعرفون قادتها من قرب، ويقابلونهم دورياً. وأنا أفكر في دراسات برنار روجييه الميدانية وموضوعها الاسلاميون في مخيمات شمال لبنان الفلسطينية. فهي عمل من غير وسيط، وهو يضطلع به منذ سنوات. والاعمال الميدانية هذه تتيح معرفة وثيقة بهذه الحركات السياسية، في اطار العلوم الاجتماعية الاوروبية. فالباحثون الاميركيون تعترضهم معوقات تحول دون انجازهم تقصياً ميدانياً معمقاً، جراء توتر علاقة المنظمات بالولاياتالمتحدة. والبحث متاح كذلك في الاردن ومصر. والاستثناء هو سورية. ومنذ 1990 تقريباً، أو منذ اتفاقات أوسلو على وجه الدقة، كثرت المصادر المعاصرة وتنوعت الوثائق. وزاد عدد الكتب التي نشرها المسؤولون أنفسهم أو تلك التي كتبها صحافيون محققون قابلوا المسؤولين وحاوروهم، زيادة ظاهرة وملحوظة، هذا الى دراسات في الاجتماعيات والاقتصاد والسياسة. ووفرة المصادر هذه لا نظير لها في حقبات معاصرة أخرى. وعلى سبيل المثل، فالمعلومات عن أندونيسيا أو افريقيا في الاعوام هذه قليلة جداً قياساً على مصادرنا ومادتنا. وبديهي ان المؤرخ يُعمل في هذه المادة معايير التحقيق والتعديل والكيف واللَماذا والمقارنة... ومنذ اعوام قليلة أخيرة شهدنا، في الغرب وفي أوروبا على وجه الخصوص، إعمال الاجراءات والمناهج القضائية في التأويل التاريخي. والمنهج القضائي يفترض رأياً يقتبس مفهوم المسؤولية، ويفترض نظام علاقة سببية. ويذكر هذا بحال التأريخ قبل البلورة المنهجية التي تولاها مؤرخو القرن العشرين. والنظر التاريخي، اليوم، لا يعتد بالمسؤولية والتبعة قدر اعتداده بمثال السيرورات ونموذجها. والادوار التي يضطلع بها الفاعلون والمتدخلون والمسؤولون في النزاعات انما هي جزء أو عامل من عوامل سيرورات وديناميات تسجن أصحاب هذه الادوار الفاعلين والمتدخلين في شباكها. وقد تدعو هذه الحال، أي السَجن في السيرورات والديناميات وعجز المسؤولين الفاعلين عن التحرر منها، الى الاسف، ولكن المؤرخ ملزم باعتبار هذه الحقائق حين يستعيد سياق الوقائع. ويقود هذا الى الاقرار بأن على المؤرخين الإحجام عن الاحكام المعيارية، فهم ليسوا موجبي حق أو حقوق، ولا مصدر مثل هذا الايجاب. وإذا شاء المؤرخ تناول مسألة فلسطين تناولاً علمياً، عليه على الدوام تعليق مسألة الحق المشروع، أياً كان رأيه هو. فالمسألتان، مسألة التناول العلمي ومسألة ايجاب الحق المشروع، لا تحملان على محمل فكري واحد. ومسألة الحق المشروع ليست من اختصاص المؤرخ، ولا يعود اليه بتها، بل الى المقالات الحقوقية والاخلاقية والسياسية. وقد يتولى المؤرخون صوغ بعض عناصر هي جزء من مناقشة الحق المشروع. والمثالات النظرية والفكرية لا يدفع بعضها بعضاً ولا يناقضه. والتناقض قد يخالط الواقع التاريخي وينشب فيه، ولكنه ليس تناقضاً في المفاهيم نفسها. وأنا أرى ان تناول الصهيونية على نحو حركة تحرر وطني اضطلع بها الشعب اليهودي من الآلام الفظيعة التي أنزلت به في القرن العشرين، هو أمر مشروع. ومن وجه آخر، ليست المرة الاولى التي تنخرط فيها حركة وطنية أو تضلع في ظاهرات أخرى تدخل في باب الاستعمار. فثمة، قبل 1948 وبعدها، مشكلة «الاستعمار الاستيطاني» الذي اقتضى اجلاء السكان الاوائل عن يد سكان آخرين. وهذا ليس رأياً معيارياً بل هو تقرير وقائع. ومن ناحية أخرى، كانت اسرائيل ومعها الحركة الصهيونية، ممتنعة النشأة لولا اتصالها الوثيق بقوى سياسية عالمية أقوى منها. وقبل 1914، لكان استحال قيام اسرائيل لولا اتصالها بسيطرة القوى الاستعمارية الاوروبية ونفوذها في السلطنة العثمانية من طريقة شبكة أنظمة الامتيازات والحمايات القنصلية، الخ. والوطن اليهودي نفسه لما كان قيامه ممكناً لولا الانتداب البريطاني بفلسطين. ولا يفضي هذا الى القول إن القوى الاوروبية هي التي أنشأت الحركة الصهيونية قبل 1914، أو ان البريطانيين أنشأوها في أثناء انتدابهم على المنطقة. فحقل فعل الصهيونية ما كان له أن يرتسم إلا في نطاق الاطر الخارجية هذه. وهي تباعاً: السيطرة الاوروبية مجتمعة، ثم الانتداب البريطاني، وأخيراً الاستراتيجيات الاميركية في المنطقة – وتنضبط هذه الاستراتيجيات على علل سياسية داخلية فوق انضباطها على مصالح استراتيجية. ولا شك في ان الحركة الصهيونية عقدت حلفاً استراتيجياً مع الروس – وكان هذا متاحاً، على الوجه العملي والتقني، في 1948. والمتصدي للفعل انتهازي، وهو يتولى عمله تبعاً لموازين القوى الاقليمية. ويسعني القول اذاً أنا علقت بت مسألة الحق المشروع، وبتها ليس شأني ولا يعود إليّ، واجتهدت رأيي في الوقائع، ان عودة اسرائيل الى حدود 1967 هي الحل المعقول الوحيد. ولا غنى عن هذه الطريق حلاً للنزاع. ولا ننسَ أحكام محكمة العدل الدولية التي تعرف حدود اسرائيل بحسب القانون وتلك التي ليست بحسب القانون. وهذه الاحكام تدخل في باب الحق والقانون، وليست من اختصاص المؤرخ. وعلى المؤرخ ألا يغفل عن تواضع عمله. وعمله ليس إلا شعبة علمية من الذاكرة. وهذه اوسع من التاريخ بما لا يقاس. وليس غريباً ولا مستهجناً أن تخالف قراءة حزيران (يونيو) 1967 تذكر اسرائيلي عاش الحرب. والسؤال عن الصدى الاجتماعي الذي يخلفه عمل المؤرخين في الجمهور طرحه جائز. وهذا الصدى، من جهة، يصح القول إنه ضئيل. ولكن معارف المؤرخين المحترفين، من جهة اخرى، تشيع تدريجاً شيوعاً بطيئاً من طرق متشابكة وخفية لا نميزها نحن أنفسنا. فكتبي، على رغم افتقار توزيعها على بضعة آلاف من النسخ في فرنسا، على سبيل المثال، أصبحت جزءاً من إعداد الطلاب والجامعيين والموظفين. وهؤلاء مقبلون على العمل في المنطقة في الاطار الفرنسي. وترجمة كتاب الى لغة أخرى قرينة ومؤشر. فكتابي «مسألة فلسطين» نقل الى العربية. وهو صار مرجعاً في أوساط الوسط الثقافي بمصر، ويقترح قراءة النزاع الاسرائيلي - العربي على نحو غير النحو السائر والمعهود في الكتابات العربية. وتؤدي الصحافة، من طريق الانترنت، دوراً ليس في مقدورنا قياسه وتقويمه، ولكنه على الارجح فعلي وقائم. والقراء العرب يتتبعون بعض الصحافة العبرية، بالانكليزية، يومياً. وهذا لم يكن متاحاً قبل 10 أعوام. وفي بعض الصحف، مثل «النهار» اللبنانية، باب يومي ينقل مقتطفات من الصحافة العبرية. وصحف عربية أخرى تستكتب صحافيين وكتاباً اسرائيليين، وقد لا تعرف تابعيتهم. ولا ريب في ان العامل الحاسم في مستقبل النزاع هو العامل السكاني (الديموغرافي). وكان ليفي إشكول، رئيس الوزراء الاسرائيلي ابان حرب 1967، أوجز سياسة حكومته بالقول: أرادت اسرائيل بائنة (دوطة) العروس من غير العروس. والبائنة هي الارض والعروس هي السكان. وتلحظ الدراسات السكانية الاخيرة ضعف الانجاب الفلسطيني، قياساً على الولادات الكثيرة ومتوسطها المرتفع السابق. وهذا على خلاف تعاظم الانجاب في المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية. وتعليل الظاهرة عاملان: سلفية المستوطنين وهرم الأعمار وترجيحه كفة الفتيان والشباب. وهذا بمعزل عن قدوم المهاجرين الجدد. وانقلاب الحال السكانية الاسرائيلية، وهو لا تعول عادة على التنامي الطبيعي، لا يعدم أثره السياسي الخطير. فهو يقلص احتمال لجم الاستيطان. وينزع السكان المسنون، على جاري العادة، الى المهادنة والمسالمة، والى الامساك عن العنف، قياساً على جماعة يغلب عليها الشبان. وتعود ثقافة أوروبا المسالمة الى ارادة الاوروبيين المصالحة التاريخية، ورغبتهم في ألا يكرروا أخطاء الماضي الثقيلة. ولكن شطراً منها يعود الى هرم السكان. وعلى العموم دخل سكان الشرق الادنى مرحلة انتقال سكاني يُسلمهم الى هرم متسارع. ففي أثناء زيارتي الاولى الى مدن مثل عمان ودمشق، قبل 30 سنة، كانت الطرق تعج بالاولاد. واليوم، ألاحظ انحسار عددهم. وقد يفضي وجها الظاهرة في غضون 10 او 20 أو 30 سنة، الى انكماش طاقة العنف في المنطقة. ولا ريب في ان مفاعيل الظاهرة في السياسة مسألة أخرى، شأن كل انتقال من الابنية التاريخية والهياكل الى الحوادث الجزئية والجارية. * مؤرخ، وأستاذ في «كوليج دو فرانس»، عن «اسبري» الفرنسية، 11 /2010، اعداد منال نحاس