انطوى ملف الصراع العربي - الإسرائيلي في مسيرته الطويلة على عدد من المغالطات والأوهام والأساطير ذات الطابع القانوني التي يتعين إيضاحها ولو من زاوية الإسهام الفقهي. الأسطورة الأولى، هي أن قرار التقسيم قصد به تقسيم فلسطين بين شعبين ودولتين وفق نص القرار. العرب رأوا في القرار غبناً فرفضوه، ولا جدوى الآن من استدراك مقولة ترى أن قبولهم به كان سيفوت كل ما جاء بعد ذلك من تطورات لمصلحة اليهود في فلسطين. أما اليهود فقد اعتبروه منحة من السماء وفسروه وفق المخطط الصهيوني وهو أنه أهم أداة تنفيذية نقلت المشروع من عالم الخيال إلى عالم الواقع، وتشير مذكرات الساسة الإسرائيليين إلى أن هذه الأداة التجريبية هي أول احتكاك بين الادعاء الصهيوني في فلسطين، وبين قدرة الادعاء على الحركة على الأرض بين الفلسطينيين لدرجة أن بن غوريون لو كان حياً لمات كمداً لأنه توقع أن يموت المشروع كلما تقدم في الجسد العربي. القرار لم يكن تقسيماً حقيقياً ولكنه تظاهر بالتقسيم وهو يضمر كل فلسطين، ولذلك قال اليهود إن قيمة القرار هو أنه وثيقة اعترف بها العالم أخيراً وبعد جهود وعقود بأن فلسطين هي وطن الشعب اليهودي، أما إزاحة الفلسطينيين فهي مسألة وقت مع التخطيط والعمل لتحقيق هذه النتيجة، في محاولة لإعادة رسم خريطة المنطقة كلها بحيث تكون مستعدة لقبول إسرائيل محل فلسطين التي يطويها النسيان وتودع متحف تاريخ الأمم المنقرضة. الأسطورة الثانية، هي أن الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع بين سرطان له مصادر قوته خارج المنطقة وبين منطقة لم تألف العمل سوياً ضد السرطان إلا بتماسك مركز القيادة فيها وهو مصر والشام، ولذلك عمد المشروع إلى تحطيم مركز القيادة وضمان تمزقه وعدم التئامه، ولذلك يعد التفكير حول العلاقات السورية - المصرية وفرص تحسنها تفكيراً سطحياً إذا أغفل الحقيقة التي فهمها جيداً هذا المشروع الصهيوني. الأسطورة الثالثة، هي أن إسرائيل دولة عادية محتلة وأن معاملتها بموجب القانون الدولي يحرجها ويظهرها بمظهر الدولة العاصية مما يوقف تقدم المشروع ويعطي الفلسطينيين الأمل في العيش في فلسطين إلى جانبها. في ظل هذه الأسطورة ازدهرت ترسانة المصطلحات ونشطت آلاف الكائنات التي وظفت لتنفيذ هذه الأسطورة تارة تحت عنوان عملية السلام والمفاوضات وتارة أخرى تحت عنوان الدولة الفلسطينية، أو حل الدولتين. لا تطيق إسرائيل أن ترى الفلسطينيين واسم فلسطين، ما دامت ترى أن اليهود هم أصحاب الأرض وأن يهود اليوم هم ورثة يهود الأمس ليس فقط في فلسطين ولكن في كل مكان عاش الأجداد فيه. الأسطورة الرابعة، هي أن قرارات الأممالمتحدة هي الشرعية الكافية لاسترداد الحقوق الفلسطينية التي يتم اغتصابها كل يوم مع تقدم المشروع الصهيوني. ولذلك يجب إعادة فرز وتحليل هذه القرارات واستخدامها في الصراع القانوني إذا توافرت الإرادة السياسية، ومن دونها فلا قيمة لأي تحليل أو توظيف، فحتى في هذه الحدود يمكن وقف المشروع الصهيوني ولكن الآفة الكبرى هي إدراك المشروع أن قوة اندفاعه ضد جسد عربي بقيادة مصر ستتداعى، ولذلك فإن التحكم في هذه القيادة هو أهم ضمان لاستمرار تقدم هذا المشروع، كما أن تفكيك الأوطان العربية بخاصة مصر يضمن رسم الخريطة المطلوبة لقرون قادمة. الأسطورة الخامسة، هي أن الإدارة القانونية وحدها للصراع لا تكفي بغير إرادة شاملة، كما أن مقاومة مصر وحدها بعد انفراط العقد في عقود التيه العربي منذ عام 1979 هي مجرد بداية لصحوة عربية لإنقاذ عقل عربي أدمته جراح هذه العقود المظلمة، ولكن إحياء مصر نفسها أكبر معركة ضد هذا المشروع الغاشم. الأسطورة السادسة، هي أن معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية هي بداية طريق السلام، ولا شك في أن سلوك الحكومة المصرية إزاء هذه المعاهدة يقطع بأن مصر الرسمية التقمت الطعم وسرى في دمها المرض الخبيث. ويترتب على ذلك سقوط كل المقولات التي لا يزال رموز المرحلة يرددونها بأن مصر جلبت السلام والعرب تقاعسوا، وأن مصر ضحت وغيرها خان وأنه آن الأوان لمصر أن تهتم بنفسها بعد أن نسيت الأخت الكبرى زينتها وفاتها قطار الزواج. الأسطورة السابعة، هي أن القرارين 242 و338 هما أساس عملية السلام وأن الصراع بدأ بهما منذ عام 1967 وأنه لا يجوز النظر إلى ما قبلهما. هذه الأسطورة روجها اليهود والعرب معاً بغفلة منهم أو خديعة، لأن البدء بقرار مجلس الأمن 242 على أساس التسامح يعني إغفال قرار التقسيم الذي لا تريد إسرائيل العودة إليه بعد أن وصل قطار المشروع الصهيوني إلى محطات متقدمة داخل فلسطين والعالم العربى. ففي الرابع من حزيران (يونيو) 1967 كانت إسرائيل التهمت خارج قرار التقسيم 21.5 في المئة من أراضي فلسطين إضافة إلى القرار فأصبح نصيبها 78 في المئة. لهذا السبب فإن من الفادح أن نردد أننا نريد دولة بحدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية لأن ذلك يعني ببساطة التسليم بالتهام ربع مساحة فلسطين التاريخية والقبول بتسوية الانسحاب مقابل علاقات معينة مع إسرائيل، والتسليم بأن القدسالغربية هي جزء من إسرائيل على رغم أن طريقة الاستيلاء عليها لا تختلف عن طريق الاستيلاء على شرق القدس، فضلاً عن أن كل الوثائق الدولية لا تشير إلى شرق القدس إلا القرار 242 الذي كان يحدد الأراضي التي استولت عليها إسرائيل عام 1967، وهو لا يعني مطلقاً أنه بذلك يسلم لإسرائيل بالقدسالغربية وفق ما زعمت إسرائيل. هذا الموقف سهّل لإسرائيل أن تعلن – عبر الاستيطان والتهويد المباشر - أن القدس خارج دائرة المفاوضات. الأسطورة الثامنة، أن المفاوضات مع إسرائيل هي طريق السلام الضامن لحقوق الفلسطينيين. فطبيعة المشروع تأبى هذا التفسير كما أنه إذا سلمنا بأن الأراضي الفلسطينية محتلة، وهو ما لم تعترف به إسرائيل، فلا يجوز مكافأة المحتل بالتفاوض معه على الانسحاب في مقابل، فالاحتلال غير المشروع يتطلب انسحاباً غير مشروط. أما في حالة إسرائيل فإن قوتها العسكرية والديبلوماسية والدعم الغربي والأميركي أوهما مصر بأن رد سيناء ولو منقوصة السيادة وفي دائرة المخطط الصهيوني يستحق كل ما جنته إسرائيل وخسرته مصر في هذه الصفقة التي أثبتت الأيام طابعها الكارثي على مصر أولاً والعرب في شكل عام. الأسطورة التاسعة، هي أن أوسلو أعادت القضية إلى الساحة الدولية وأسقطت عن إسرائيل انفرادها بترديد الرغبة في السلام فالحساب الختامي واضح في ما آلت إليه حال فلسطين والعجز الذي وصلت إليه السلطة بعد طول رهانها على حسن نية إسرائيل وحرص واشنطن على العدل في فلسطين. الأسطورة العاشرة، هي أن السلام كخيار استراتيجي عند العرب كسب الساحة الدولية وسحب البساط من تحت أرجل إسرائيل في العالم، والصحيح أن هذا السلام الاستراتيجي فهم عربياً على أنه وداع للصراع مع إسرائيل فأطفأ حاسة التوجس عند الحكومات وأشرعها عن الشعوب، بينما استغلت إسرائيل هذا الخيار الساذج وأدارت الصراع بأدواته التي تجيدها تاركة للعرب الحسرة والدهشة من براعة الكيان الغريب الذي يتغذى على الدم العربي كأسماك القرش. الأسطورة الحادية عشرة، هي التناقض بين المواجهة القانونية ومنهج التسوية السلمية. وهذا هو الأخطر لأن العرب هربوا من المواجهة بهذه الصيغة المريحة وتوهموا أنها تجلب السلام بقطع النظر عن مدى ما يتحقق من حقوق فلسطينية، فانفصل السلام عن الحقوق، وتراجع الدعم العربي للحقوق، مع تواصل الدعم المادي للبقاء تعويضاً عن الدعم الشامل في مواجهة لهذا السرطان. بل إن الوهم وصل إلى حد الاعتقاد بأن أي مواجهة قانونية مع إسرائيل هي ضياع لفرص التسوية السلمية، فماذا يفعل العرب بعد أن أغلقت واشنطن هذا الملف وتركت الجميع في العراء يواجهون أقدارهم أمام توحش إسرائيل؟ * كاتب مصري