هذا وقد حدثنا أحد المخدوعين من أهالي المدينة الساحلية أنه وقت اندلاع إحدى الحروب الفارقة في تاريخ مصر المحروسة، والتي تجلت أحداثها الدموية على الساحل المتوسطي للمدينة الباسلة المسماة بورسعيد، استمع الى الخطبة الأخيرة للسيد أحمد عمار الملقب بالقبطان، وكانت في الجمعة الثانية من شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1956، وفي صحن المسجد التوفيقي الشهير، وعقب توديع آخر فوج من ضحايا العدوان الثلاثي جهة ضاحية الجميل، بأنه قد شهد السيد الرقيب عبده فلاش، وهو يدفع بآخر عربة سوارس تجرها الحمير، وهي ممتلئة عن آخرها بجثث رفاق الرحلة من الجنود البواسل ومعهم رجال المقاومة الشعبية وبعد أهالي المدينة من قاطني أول العرب ورواد مقهى ضاحي سلطان رشوان وقد فارقت شارع أوجنية متجهة الى شارع طولي يسمى «عدلي» لتسير بتؤدة وخلفها آلاف المشيّعين متجهة إلى مبنى جمعية الرفق بالحيوان الواقعة عند التقاء شارعي مظلوم وحارة السواحل. وقد أقسم السيد المعني فلاش وبأغلظ الأيمان بأنه قد رأى البطل علي زنجير وهو يقود تظاهرة ضخمة قوامها عشرات الآلاف من سكان المدينة الباسلة يشاركهم بعض ممن شاركوا في صد الهجوم على المدينة من المحافظات المجاورة كدمياط وعزبة البرج وغيرهما، وقد رفعوا لافتات سوداء يتوسطها علم مصر وقد كتب عليها بخط بارز «علشان كرامتك يا مصر وعزتك يا زعيم... بيموتوا كل المصريين»، وأكد المسمى «أحمد عمار» والملقب بالقبطان بأن تعداد الموتى قد وصل في اليوم التاسع عشر من كانون الأول وقت العدوان الثلاثي إلى ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء والشيوخ، ويقال إنه ووقت الخطبة العصماء في صحن التوفيقي قد هاج أحد شيوخ الأزهر، معترضاً على هذا التعداد الناقص، متسائلاً عن مصير نصف سكان مدينة بورفؤاد، والذين تطايرت أشلاء أجسادهم، وكانت الغلبة من الأطفال، والذين دُفنوا بلا أطراف، بل كان هناك المئات ممن تواروا تحت تراب شارع فلسطين الموازي للمجرى الملاحي لقناة السويس. وأفاض الشيخ، والعهدة على الراوي، بأن كل من شاركوا في توديع الراحلين قد التقوا كلاً من العريف حسن عبدالرحيم من قوة الدفاع الشعبي، والمدعو عبده فلاش، وإبراهيم أبو صحة على مقهى الفنار قرب الشاطئ، وتناقشوا في ما آلت إليه أحوال المدينة عقب الحرب، بعدما وعدوا من الجهات المعنية في العاصمة بأن الزعيم الخالد جمال عبدالناصر سيحضر لزيارة المدينة الباسلة بصحبة أحد القيادات العسكرية السورية في غضون أيام قليلة، مع بدء الأسبوع الرابع من كانون الثاني (يناير)، وأن السيد علي زنجير قد واصل اعتراضه على المظالم التي حاقت بالأهالي، وكل المنشآت الاستراتيجية في مدينة بورسعيد وقد هدد وتوعد بتصعيد الأمور إن لم تحقق الأممالمتحدة في تلك الممارسات الوحشية، ومما قيل على لسان أحد الرواة من شهود العيان إن كلاً من السيد حمادة حمادة فوزي وعبده فلاش ومعهما حمام عبدالمجيد والقبطان أحمد عمار، قد أصابهم الخرس وتوقفوا عن الحديث، عندما سمعوا برحيل المناضل ملاك عبدالسيد جرجس، قائد قوات الدفاع الشعبي في الكتيبة 56 قرب الجرابعة، هذا وقد بكى ابنه الوحيد «نادر» مناشداً السيد يوسف المصري راوي المدينة في البحث عن مصير ومسار 36 رجلاً من رجال المقاومة الشعبية في منطقة ثكنات الحرية والزمين، والذين ما زال مصيرهم مجهولاً حتى الآن. وقد اعترف السيد «نادر» بأنه يحتفظ بصور فوتوغرافية تخصهم وقد سلمهم له المقدس توما روفائيل ولكنه ومع التقليب والتحديق وفحص كل الصور من خلف ومن أمام لم يجد أية بيانات تشير الى هويتهم! وقد أكد له السيد توما أن الوحيد الذي عُثر عليه من هذه المجموعة هو الشهيد رمزي نخلة جورجيوس القاطن في شارع الزقازيق وسعادة والذي دُفن منذ ساعات في مقابر الصدقة بعد أن فشلت مساعي العم شفيق جاب الله الشماس في العثور على مقبرة خالية على أطراف مدافن الأقباط الأرثوذكس.