للمرة الثالثة في السنوات الخمس الأخيرة يظهر أحمد الهوان على شاشة الفضائيات وهو يشكو «غبن الدولة». أحمد الهوان هو العميل المصري «جمعة الشوان»، على ما بات يعرف عبر مسلسل «دموع في عيون وقحة»، أشهر وأقدم مسلسل مصري مستوحى من عالم الصراع الاستخباراتي بين مصر وإسرائيل. وقد استقر العميل الذي توهمت الاستخبارات الإسرائيلية تجنيده نحو 11 سنةً في الصفوف الإسرائيلية، قبل أن تكشف مصر عنه بعد أن استطاع الحصول على جهازي إرسال شيفرات كانا الأحدث عالمياً في تلك الفترة. المدهش هو مناسبات ظهور البطل المصري وقد بلغ – ككل جيله من مناضلي هذا الزمن - الستين أو السبعين. فهو يظهر كلما كشفت مصر عن جاسوس إسرائيلي من أبنائها. وفي إطلالته قبل أيام على إحدى الفضائيات الخاصة، بدأ حديثه كالعادة بالمقارنة بين «بطولة الماضي» و «خيانة الحاضر». كان يتحدث عن نفسه مهجراً من حرب 1967، فيما الجاسوس المصري، المقبوض عليه قبل أسابيع، يدعي قلة ذات اليد والفقر لتبرير خيانته. وبعد فقرات من الدروس الوطنية الحقة، المخلصة لزمنها، المتوافقة مع موضة الزمن المنقضي، وصل الحوار إلى أوضاع البطل الذي تنصلت منه الدولة، فلم توفر له معاشاً شهرياً أو تأميناً علاجياً بعد أن بحّ صوته لنحو 20 سنة. المشهد السابق والمتكرر لا يحتاج الى تعليق من النوع الذي يذكر بكيف تأكل دولة أساطيرها، فيما لا تزال الصحف تتغنى باللافتات الأسطورية، أو نبالغ في وصف شيزوفرنيا وطنية لا تجد غضاضة في «صرف رصيدها الوطني في مناسبات»، بينما يعلو هذا الرصيد صدأ الفقر والعوز والفضيحة، ويتم تجريف الذاكرة الجمعية لملايين المصريين الذين توحدوا فيها مع البطل (قام بدوره عادل إمام) الذي يرفض إغراءات الجنس والمال في سبيل نصرة وطنه. كل هذا يبدو عادياً، بل ربما أقل من العادي. أما ما لا يبدو عادياً هذه المرة، فهو تسرب الشك بل رسوخه حول نوعية وتوقيت ظهور قضايا التجسس الموسمية بين مصر وإسرائيل. لن أتحدث هنا عن موجة التهكم الشعبية العاتية التي صاحبت الاهتمام الإعلامي الكبير بالقضية الأخيرة، ولا عن تهكم الجانب الإسرائيلي عملياً من وضع أسماء بعض من يعتقد أنهم ضباطه كمتهمين هاربين من العدالة المصرية. الأزمة تبدأ من شعور الجميع بأن الإعلان عن القبض على شبكة التجسس الثلاثية جاء متأخراً نحو أربعة أشهر، أو يزيد، من تاريخ اكتشافها والتحقيق فيها أمنياً. فوفقاً لتصريح الجهات المعنية تم اكتشاف الشبكة إما في أيار (مايو) أو آب (أغسطس) الماضيين، وتوقيت الإعلان تزامن مع حاجة الدولة لإجماع وطني ما، يلي أو يناوش «فضيحة الانتخابات البرلمانية الأخيرة». وقضية التوقيت ربما كانت ترتبط ب «لعبة» التسخين المصرية الإسرائيلية الموسمية: فعبر نحو 30 سنةً من سريان اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية تم الكشف عن أكثر من سبعين جاسوساً لإسرائيل، أي أن حالة السلام البارد كما نتخيل لا تعني هدأة الجذوة المشتعلة في الصراع التحتي بين البلدين، أو أن هناك من يحاول الإيحاء بإبقائها مشتعلة. قضية الجاسوس الصيني (تم تجنيده عبر رحلة آسيوية بدأت من الصين) كما باتت تعرف، تؤكد أو ربما تنفي أو تضع الشك في منطقة التوسط الترجيحي في سرديات تحيا عليها الوطنية المصرية المؤسسة. والسردية الأولى التي تحوي العداء الأبدي لإسرائيل من منطلق كون مصر هي الخطر العربي الأكبر عليها تنفيها خشونة الوقائع السياسية اليومية. فمصر تصدر غازاً بأرخص الأسعار لإسرائيل، والحديد المصري يبنى به حائط الفصل العنصري في الضفة، والعمالة المصرية منتشرة في دولة إسرائيل، والسياسة البراغماتية المصرية من مسألة فلسطين تضع مصر الرسمية في منطقة التخوين الشائعة عروبياً وإسلامياً ويسارياً. أما السردية الثانية، كون إسرائيل هي الخطر الأعظم على مصر، فينفيها ما ينفيها مما تقدم معكوساً، أو ينفيها الخطاب الرسمي نفسه حين يحدد «أعداء إسرائيل» إيران أو حزب الله أو حماس، أو حين يخرج النظام نفسه طوعياً من ملاعب تاريخية في صراعه معها كما حدث في أفريقيا. لا يستقيم أيضاً في المخيلة الشعبية - التي ترى إسرائيل «غير محتاجة فعلياً للتجسس علينا» - أن يتم تقديم القضايا عليها في مواقيت تخلط حبال الداخل بالخارج، ولا يستقيم في رؤية هذه المخيلة المشبعة بمؤامرات جهاز الموساد الذي نعلق على مشاجبه مشاكلنا من جنوب السودان إلى كردستان العراق وصولاً إلى انهيار إمارة دبي. فالأمر لا يكون على سذاجة كهذه في ما يخص الشأن المصري تحديداً. ولا أشكك هنا في حقيقة أو دقة المروية حول الشبكة الأخيرة، بل أستميح عذر من أطلقوها للعنان أن يبذلوا قدر الإمكان مجهوداً في حل ازدواجها السردي على مستوى التوقيت، وتدقيق تفاصيلها التي طالما تحولت إلى قضية رأي عام ودرس وطني أخلاقي تتباهى به الصحف المستقلة قبل القومية. فعلانية الإشهار تتطلب ما هو أكثر من مجرد الاعترافات يدلي بها المتهم، ويعلم القاصي والداني سهولة التشكيك فيها. ومتابعة الاتهام تتطلب ما هو أكثر من مجرد اتهام يليه تهكم من الجانب الإسرائيلي. أما حل إشكاليات وتوصيف العلاقة بدقة مع الجانب الإسرائيلي فتتطلب خطاباً واضحاً في هذا الشأن، خطاباً يحدد «موقع وزمان وأمد» صراع كهذا، خطاباً يفض عرى الازدواج القيمي للنظام، ويكون قادراً على الإجابة عن هذا التساؤل: هل إسرائيل عدو حقيقي وتاريخي وأبدي أم أنها صديق مشاغب؟ وهل السلام مرحلة تكتيكية أم خيار إستراتيجي؟ حتى هذا الوقت لماذا لا نسأل نحن أنفسنا سؤالاً عكسياً: «لماذا لا تكشف إسرائيل هي الأخرى عن جواسيس لنا هناك، هل نحن أقل منها حركة، أم أننا اكثر ذكاءً. وفي انتظار الإجابة، أنقذوا الشوان» حتى لا يتحول إلى عبرة لمن بات فعلياً يعتبر.