يتابع المراقبون والمحللون الأزمة الكورية التي تفجرت بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، بعد القصف الشمالي لجزيرة يون بيونغ الجنوبية، وسقوط عدد من القتلى والجرحى من جراء هذا القصف، وأشعل ذلك القصف التوتر بين الدولتين الشقيقتين المتخاصمتين بشكل لم يسبق له مثيل منذ انتهاء الحرب الكورية، التي دارت ما بين عامي 1950 و 1953، وتوقيعهما معاهدة هدنة تُنهي توقف الأعمال العسكرية بينهما، وبعد اقتناع لاعبي الحرب الباردة في ذلك الوقت الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة بأن الوقت حان لإيقاف الأعمال العسكرية التي تغذيها مصالح الدولتين الكبريين في العالم في ذلك الوقت. منذ العام الماضي تصاعدت حدة التوتر بين الكوريتين، خصوصاً، بعد انسحاب كوريا الشمالية من المفاوضات السداسية بينها وبين الدول الخمس ذات العلاقة «الولاياتالمتحدة والصين وروسيا وكوريا الجنوبية واليابان» المتعلقة بإنهاء برامجها النووية ذات الأهداف العسكرية، بحجة عدم إيفاء الولاياتالمتحدة الأميركية وكوريا الجنوبية بوعودهما، إذ قامت بعدد من الأعمال التي اعتبرتها الولاياتالمتحدة وكوريا الجنوبية استفزازية، كإغراق الطراد تشيونان في آذار (مارس) الماضي وأدى إلى مقتل 46 بحاراً، والكشف عن عدد جديد من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، وقصف جزيرة يون بيونغ. وبقراءة متعمقة لمواقف الدول ذات العلاقة في الأزمة الكورية يتضح لنا ما يأتي: ما يتعلق بالموقف الصيني، فيعتقد الكثير من الخبراء والمحللين أن موقف الصين سيستند على مصالحها الإقليمية والدولية، فالصين لا تريد أن ترى دولة منهارة على حدودها الشرقية في حال اندلعت حرب بين الكوريتين وانهارت الشمالية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فتخشى نزوح آلاف بل ملايين اللاجئين إليها، ولكن الخوف الأكبر هو من نقطتين مهمتين هما: أولاً: اندلاع حرب تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، ما يعرض أمنها للخطر، وثانياً: انتهاء الحرب بين البلدين بوحدة كورية تكون موالية للولايات المتحدة، وبروز قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية على حدودها، تنافسها بالمنطقة وتكون أداة ضغط، بل تطويق لها من منافستها القوية الولاياتالمتحدة الأميركية. لذلك نرى أن الصين لا تحبذ وحدة كورية تكون الجنوبية هي المسيطرة، وهو السيناريو الأسوأ، أو ما يعتبر كابوساً للصين، ما يجعل الصين تقف موقفاً متشدداً في مجلس الأمن الدولي، ومنعه من إصدار قرار يدين أعمال كوريا الشمالية، كإغراق الطراد الكوري الجنوبي في العام الماضي، وكذلك قصفها جزيرة يون بيونغ، وهو موقف جعل الصين تتمسك بقوة، بعدم حشر كوريا الشمالية في الزاوية، خصوصاً بعد كشفها عن عدد من منشآت التخصيب الجديدة. أما بالنسبة للموقف الأميركي، فواضح جداً، فهو يريد تكثيف الضغط على كوريا الشمالية لإضعافها وانهيارها اقتصادياً وسياسيا،ً ما يؤدي في النهاية إلى قيام وحدة كورية بقيادة الجنوب، ما يعزز نفوذها في المنطقة، ويحد من النفوذ الصيني المتزايد، ويعزز أوراقها في مواجهة الصين والتفاوض معها حول الكثير من القضايا، لذلك أيدت الولاياتالمتحدة الأميركية بشكل علني وصريح الإجراءات التي قامت بها كوريا الجنوبية، ومنها المناورات العسكرية في البحر الأصفر، والتصعيد السياسي مع الشمال، لأن كل هذه الإجراءات تصب في مصلحة الولاياتالمتحدة، وتزيد الضغوط على كوريا الشمالية والصين. الموقف الياباني يختلف عن الموقفين الأميركي والصيني، إذ احتلت اليابان كوريا حتى عام 1945، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، لذلك نرى أن علاقاتها مع كوريا الجنوبية تتسم بالحذر، نظراً للإرث التاريخي الذي حصل من جراء احتلالها لكوريا، ما يجعل نظرتها للوضع في شبه الجزيرة الكورية دائماً يكون حذراً جداً، إذ تنظر لكوريا الجنوبية كمنافس اقتصادي قوي، وللشمالية كتهديد عسكري لاستقرار المنطقة، ولذلك يرى الكثير من المحللين أن اليابان ترى أن أي نزاع في المنطقة سيقوض استقرارها، ومن الممكن أن يؤدي إلى وحدة سياسية بين البلدين، ستخلق من كوريا قوة اقتصادية وعسكرية تمتلك سلاحاً رادعاً في المنطقة، ما يقلق اليابان بشكل كبير. أما الموقف الروسي، فمنذ فوز ميدفيديف والسياسة الروسية تشهد تناغماً مع الغرب، خصوصاً بعد دعوتها لمؤتمر لشبونة لرؤساء الدول والحكومات في حلف الناتو، وعلى رغم التحفظات الغربية والأميركية بالذات لإدخال روسيا ضمن منظومة «الدرع الصاروخية» في ذلك المؤتمر، إلا أن تصريحات وزير خارجيتها لافروف، بشأن الأزمة الكورية لم تجارِ الموقف الصيني، وكانت أقرب إلى الوسطية من الدعم لكوريا الشمالية، ولكن لم تنسَ روسيا موضوع جزر «الكوريل» المتنازع عليها مع اليابان، ما يجعل الأزمة الكورية، وكوريا الشمالية بالذات، ورقة في يد روسيا لاستخدامها وقت المفاوضات حول جزر الكوريل اليابانية. والسؤال المطروح هو: لماذا التصعيد في الأزمة الكورية في هذا الوقت بالذات؟ وما مسبباته؟ يعتقد الكثير من المحللين أن السبب بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية هو مواجهة النفوذ الصيني المتعاظم في المنطقة، بعد أن كانت السيطرة كاملة ومن دون أي منافسة للولايات المتحدة، سواء سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، إذ تضغط الولاياتالمتحدة الأميركية على الصين بشأن سعر صرف «اليوان» الصيني، وكذلك الفائض التجاري، وقلق أميركا من الإنفاق العسكري الصيني المتزايد، لذلك بدأت إدارة أوباما بالتلويح ببعض أوراقها كزيارة الرئيس أوباما للهند وتوقيعه معها الكثير من الاتفاقات، وتأييده لانضمامها للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، رعلى غم التحفظ الصيني، وزيادة الضغوط على كوريا الشمالية لإحراج الصين أو جرها إلى حرب باردة جديدة لا تستطيع تحمل تبعاتها على المدى البعيد. أما بالنسبة للصين فلديها الكثير من الأوراق التي تستطيع مواجهة الضغوط الأميركية من خلالها، والأزمة الكورية هي أبرزها، وكذلك الاقتصاد الذي تحتاج أميركا مساهمته لإنعاش اقتصادها، فالسوق الصينية تشهد نمواً كبيراً وهي واعدة جداً لمساعدة الغرب في تجاوز الأزمة الاقتصادية، كما أن الملفين الإيراني والباكستاني هما أيضاً أوراق ضاغطة في يد الصين. أعتقد أن الأزمة الكورية هي إحدى وسائل الضغط السياسي بين الولاياتالمتحدة الأميركية والصين، الغرض منها تحقيق أهداف في ملفات أخرى، خصوصاً الاقتصادية منها، أو أنها شعور بالتهديد لفقدان النفوذ للولايات المتحدة تريد منها تذكير الجميع بقوتها ونفوذها وقدرتها على تحريك الأوراق في المنطقة. * أكاديمي سعودي