انتهت الانتخابات التشريعية المثيرة للجدل في مصر، ويظل الواقع السياسي هناك مبهماً وغير معروف التوجه خلال الشهور والسنوات المقبلة. إلا أن ما يهمنا هو معرفة أوضاع الاقتصاد المصري وإمكانات تطوره ومن ثم انعكاس ذلك على الواقعين الاجتماعي والسياسي. تُعتبر مصر أهم دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان والموقع الجغرافي والدور السياسي، إذ يبلغ عدد سكانها نحو 80 مليون نسمة وقُدِّر ناتجها القومي الإجمالي عام 2009 بحدود 470 بليون دولار. ويعتمد الاقتصاد المصري على موارد سيادية رئيسة هي السياحة والبترول وإيرادات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج. وهناك نشاطات اقتصادية أساسية في مصر مثل صناعات النسيج وصناعات المواد الغذائية والاستثمار العقاري وصناعات مواد البناء. لكن الاقتصاد المصري ومنذ تولي العسكريين للسلطة عام 1952 مر بمراحل متعددة بدأت بمرحلة تمصير المؤسسات المملوكة للأجانب، أو لحصص الأجانب في تلك المؤسسات، مثل المصارف والشركات الصناعية أو الفنادق، ثم جاءت فترة التأميم بعد عام 1962، وبعد الإعلان عن الميثاق القومي الذي نحى بالبلاد باتجاه الاشتراكية، فأُمِّمت النشاطات الاقتصادية كلها، وسبق ذلك تأميم قناة السويس التي كانت مملوكة من قبل شركة فرنسية - بريطانية. وغني عن البيان أن التأميم أدى إلى تطورات مفصلية في الحياة الاقتصادية في مصر دفعت رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات الخاصة إلى أوضاع مالية صعبة اضطر معها كثيرون منهم إلى الرحيل إلى الخارج بما تبقى معهم من أموال. يُشار إلى أن القطاع الزراعي تعرض لتحولات هيكلية بعد عام 1952 وبعد تبني قانون الإصلاح الزراعي، الذي عُدِّل مرات، ما أدى إلى توزيع الأراضي المملوكة من كبار الملاك، أو الإقطاعيين كما كان يُطلق عليهم، على صغار الفلاحين. وكما يعلم اقتصاديو الزراعة، تتطلب عملية الإنتاج تأمين مساحات شاسعة من الأراضي كي يكون الإنتاج مجدياً، ولذلك ساهم تفتيت الأراضي الزراعية في تراجع الإنتاج وتدهور مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي في مصر. وتؤكد التجربة المصرية في قطاع الزراعة أهمية اعتماد معايير اقتصادية صارمة في الإصلاح الزراعي حتى لا تأتي أهداف العدالة الاجتماعية على حساب الكفاية الإنتاجية ومن ثم لا تتحقق الأهداف التنموية المنشودة، والتي من أهمها تحسين الظروف المعيشية للمزارعين أو الفلاحين. لقد أدى التراجع في الإنتاج الزراعي واستمرار النمو السكاني المرتفع إلى زيادة استيراد المواد الغذائية بحيث أصبحت مصر من المعتمدين على الخارج لتأمين الغذاء لأبناء الشعب المصري. وتمثل الواردات من المواد الغذائية وسلعها أهمية في الواردات الإجمالية لمصر. ويشكل هذا الاعتماد الهيكلي على الواردات السلعية الغذائية محوراً مهماً في السياسة الاقتصادية نظراً إلى أهمية تأمين الغذاء المدعوم للطبقة الشعبية. وتعرضت مصر لموجات عديدة من الاحتجاجات خلال السنوات الماضية بسبب المشاكل المتأتية من نقص واردات القمح، وهناك مشكلة في الوقت الحاضر بسبب تراجع إمكانات روسيا التصديرية، أحد أهم البلاد المصدرة للقمح إلى مصر، لأسباب تتعلق بالظروف المناخية وتراجع الإنتاج. وعلى رغم الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وتحديداً عام 1974، لا يزال الاقتصاد المصري يتسم بمظاهر التخلف البيروقراطي. صحيح أن هناك سوقاً للأوراق المالية، نشطة إلى حد ما، وهناك العديد من المنشآت الاقتصادية التي تُدار بأساليب عصرية، فيما تكونت طبقة من رجال الأعمال ذات تواصل مع الاقتصاد المعاصر، بيد أن هيمنة البيروقراطية لا تزال طاغية ومفاهيم سطوة الدولة على النشاطات الاقتصادية الأساسية لا تزال واضحة. ويبدو أن منظومة القيم التي سادت في العهد الناصري لا تزال تتحكم بذهنية المسؤولين في مختلف المؤسسات ذات السلطة والقرار، ولذلك يجد كثيرون من رجال الأعمال تردداً من قبل السلطات في شأن تطويع الأنظمة بما يتلاءم مع تحرير العمل الاقتصادي وزيادة فاعلية دور القطاع الخاص. يمكن القول إن الاقتصادي في مصر لم يتطور على أسس منطقية تؤدي إلى تعزيز دور القطاع الخاص في القطاعات الاقتصادية ذات الميزات النسبية ويؤدي إلى إيجاد طبقة من رجال الأعمال المؤهلين لقيادة الحياة الاقتصادية من دون انتهاك لحقوق بقية الفئات الشعبية. برزت فئات من أصحاب الأعمال الذين تمكنوا من تكوين ثروات من عمليات شراء وبيع الأراضي، وحُوِّلت أجزاء مهمة من الأراضي الزراعية إلى استخدامات عقارية متنوعة ما رفع أسعارها وعزز ثروات ملاكها. واشترى كثيرون من أصحاب رؤوس الأموال الأراضي من الدولة وبأسعار متهاودة وتطوير مدن سكنية، خصوصاً مدن السكن الفاخر والمتوسط. ولم تتمكن هذه النشاطات العقارية من تأمين السكن للملايين من المصريين من أصحاب الدخول المتوسطة أو المتدنية، وهي أيضاً لم تلاقِ طلباً مواتياً من أصحاب الدخول العالية، ولذلك أُهدرت أموال مهمة واستغلت أراض شاسعة في أعمال غير مجدية اقتصادياً. ومؤسف أن الانفتاح الاقتصادي في مصر والعديد من البلدان العربية يوظف في شكل غير مفيد بما يعزز التحفظات التي يثيرها العديد من المراقبين حول جدوى التحول نحو اقتصادات السوق. هذه الحقائق تؤكد أهمية مراجعة مسيرة عملية الانفتاح الاقتصادي وتطوير الإدارة الحكومية ووضع تصورات للنشاطات الاقتصادية التي يمكن أن تحوّل مصر إلى دولة ذات اقتصاد عصري قادر على النمو وإيجاد فرص الأعمال وفرص العمل وتحسين مستويات المعيشة في بلد يعاني من زيادة عالية في السكان ومحدودية في الموارد السيادية واتساع دور الدولة في الحياة الاقتصادية. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت