المتأمّل في الفكر العربي الحديث والمعاصر يعاين أشكالاً وصوراً شتّى لتنازع الوطن والحرية. فالمثقف العربي، منذ أحمد فارس الشدياق وفرنسيس المرّاش وجبرائيل دلاّل ورزق الله حسون إلى محمد أركون وهاشم صالح وحليم بركات، يمزّقه وعي شقي بين خياري الوطن والحرية. الحرية مع الاغتراب والنفي أو الوطن مع الاستبداد والإذعان والامتثال للطغيان. اختار أحمد فارس الشدياق الحرية ليمضي العمر بائساً شريداً بعيداً من أهله ودياره، مقارعاً الاستبداد الطائفي دونما خوف أو تقيّة. وأمضى رزق الله حسون السنوات الطوال مشرّداً عن وطنه، يعاني لوعة البعاد عن ابنه، ودفعه شوقه إلى عائلته إلى المغامرة بالعودة متنكراً إلى حلب، ولو لوقت قصير. وفي سبعينات القرن التاسع عشر كتب فرنسيس المرّاش: «لن تلبث مقيماً في أرض يحكمها وغد». وقال معجباً بالحرية والأمن السائدين في غربته الباريسية: «كم تستميل الإنسان هذه الديار التي تمنح أمناً غير مثلوم، وحرية غير مأسورة، وحياة غير مهدّدة ولا مذعورة». لكن شوقه إلى الوطن جعله يؤثر العودة لائذاً إلى حماية الفرنسيين اتقاءً من هلاك محتّم. في الآونة إياها ارسل النهضوي الليبرالي جبرائيل دلاّل من منفاه الباريسي إلى صديقه قسطاكي الحمصي في حلب قصيدةً تعبّر عن وعيه الشقي بين خياري الوطن والحرية قال فيها: «إنّ قلبي يهوى الرجوع إليكم وصوابي يقتادني للرحيل... والضرورات تقتضي البعد عنكم ومن أين لي بصبر جميل... صرت في غربتي وحيداً كئيباً». لكن الدلاّل الذي لم يحتمل عذاب الاغتراب ما لبث أن عاد إلى وطنه ليلقى سوء المصير ويقضي في سجنه تحت التعذيب. هذا الجدل القديم المتجدّد بين خيارَي الوطن والحرية لا يزال مستمراً في الفكر العربي الراهن، فحليم بركات يقدم صورة حيّة عن معاناة المثقف النقدي العربي المغترب بقوله في «الاغتراب في الثقافة العربية»: «أحب شجرة الصفصاف لأنّها تنكفئ على ذاتها وجذورها. كلّما كبرتُ في العمر انحنت أغصاني على جذوري... لكنّني أعرف أن العيش في الوطن يتطلب امتثالاً. لا يزال تعدّد الأصوات غير مقبول في الوطن، والاختلاف ليس حقاً بل نشوز، وفسحة التحرّك محدودة، والإبداع بدعة، والانتماء ذو بعد واحد. لذلك لا أعرف حقاً أيّهما أشدّ قسوة المنفى أم الوطن؟». في موقف مشابه يقول محمد أركون: «في الوقت الذي نجد أنفسنا فيه، نحن المثقفين المهاجرين، مسجونين داخل قمقم إسلامي في الغرب ونرى مصيرنا التهميش والإحباط، في هذا الوقت بالذات نجد نظراءنا العائشين في أرض الإسلام يواجهون العراقيل الثقافيّة التي لا تقلّ خطورة. بل إنّهم يواجهون موقفاً عدائياً أشدّ صعوبة يتمثل بالتكفير والملاحقات القضائية ثم بالسجن وأحياناً بالتصفية الجسدية». ويؤثر هاشم صالح الحرية على الاستبداد، ولو في المنفى وبعيداً من الوطن والأحباء وعلى رغم انشداده الوجداني إلى هؤلاء، يقول في «مدخل إلى فكر التنوير الأوروبي»: «كان من حسن حظي أن وطأت قدماي أرض فرنسا، هذه الأرض الطيّبة المحرّرة من فقه القرون الوسطى، الفقه الظلامي الذي يفتك الآن ببلادي فتكاً ذريعاً». هذه النماذج من مواقف المثقفين العرب المعاصرين تكشف مدى الخلل في واقعنا العربي، إذ ثمة فجوة شاسعة لا تزال تفصل بين انتمائنا إلى أوطاننا وانتمائنا إلى عصرنا وإنسانيّتنا. فالإنتماء إلى الوطن في ظلّ أنظمة الاستبداد العربية يفرض التنازل والامتثال والإذعان، والانتماء إلى عصرنا وإنسانيّتنا لا يستقيم من دون الالتزام بالحرية وبحق الفرد في التفكير والشك والنقد والمساءلة وفي أن يشارك في اختيار النظام السياسي الأنسب لوطنه والقوانين الأصلح لمجتمعه. وما لم تتم المصالحة بين الوطن والحرية، سيظل الإنسان العربي يتطلّع خارج أمّته بحثاً عن نافذة أمل، لكن ذلك لن يخرجه من مأزقه بل يبقي أبواب المنفى مفتوحة أمامه، ويبقى بالتالي ممزقاً بين وطنه وحريته. إنّ خلاص المثقف العربي يكون في أمّة عربية محرّرة من طواغيتها، وفي مجتمعات تعترف بحقوق المواطنة وحقوق الإنسان من دون استثناء وفي طليعتها حق مراقبة الحاكم ومحاسبته. من هنا يبدأ إنهاء التنازع القديم المتجدّد بين الوطن والحرية، ما عداه ليس إلا إمعاناً في الاغتراب والانسلاخ عن الذات وتعاظم الهوّة واتّساعها بين المثقّف العربي ووطنه. * كاتب لبناني