«الزمن في بعض الأماكن لا يحسب بما يحسب في غيره من الأماكن» فكيف إذا كان أحد هذه الأمكنة هو غزة وبها ما بها من حصار ومن انعدام لكل وسائل العيش والحياة ولكل ما يمكنه أن يكون شرطاً إنسانياً يعين على الاستمرار والصمود؟ شكلت غزة بعد العدوان الإسرائيلي الهمجي عام 2008، وبعد الحصار المفروض عليها جواً وبراً وبحراً، مركز استقطاب لكل المنظمات العالمية وللمهتمين بالشؤون الإنسانية والمناهضين لكل أشكال العدوان والاحتلال والتمييز والعنصرية من أنحاء العالم، وقد توجه الكثير من قوافل المساعدات الإنسانية، يرافقها متضامنون مع غزة وشعبها خلال السنتين الماضيتين، ولاقت هذه القوافل عراقيل وعقبات في طريقها إلى غزة سواء براً عبر العريش المصرية ومعبر رفح، أو بحراً، كما حصل مع أسطول الحرية الذي تعرض لاعتداء إسرائيلي. غزة أيضاً كانت خلال فترة الحصار قبلة الصحافيين من كل أنحاء العالم. فأن ترى الحدث بأم العين وتكتب عنه وأنت في وسطه يختلف كثيراً عن أن تكتب عنه بحسب ما تسمع وينقل إليك من دون أن تعرف حقيقة ما يجرى. فرصة مهمة أن تتواجد في غزة، كصحافي، وأن تقابل الغزاويين، وعائلات المساجين والشهداء ومن تبقى من عائلات مورست عليها سياسة الإبادة الشاملة، أن ترى «إبداع «هؤلاء في خلق وسائل الصمود والمقاومة والاستمرار في العيش، أن تسمع آراءهم في ما يجرى، وفي نمط الحياة المفروضة عليهم، أن تناقشهم بآرائهم السياسية وتعرف وجهات نظرهم بالخلاف الفلسطيني - الفلسطيني، وبالخلاف العربي - العربي، أن نرى تفاعلهم مع شأن ترفيهي كالمونديال، مثلاً، أو الدراما التلفزيونية العربية، أن تختبر كصحافي كل هذا في بلد محاصر مثل غزة وأنت منحاز لشعب غزة فقط ولمعاناته اليومية. فرصة مهمة أن تتوجه إلى هناك وتقدم للقارئ صورة أخرى مختلفة عما يقدمها إعلام مرئي عربي أو غير عربي ينحاز إلى هذه الفئة السياسية أو تلك ويقدم الصورة التي يريدها هذا الطرف السياسي أو ذاك. هذه الإغراءات جعلت سامية بلقاضي الصحافية الجزائرية في صحيفة «الجزائر نيوز» اليومية، تسعى إلى مرافقة وفد في قافلة مساعدات إنسانية جزائرية متوجه إلى غزة، وسجلت يومياتها منذ لحظة وضع اسمها كمرافقة للقافلة وحتى عودتها من غزة. واليوميات التي نشرتها تباعاً كتقارير صحافية، عادت وأصدرتها في كتاب عنوانه: «رأيت غزة - ثلاثة أيام تحت الحصار» وصدر أخيراً عن منشورات سقراط في الجزائر. ضمن الوفد الجزائري المؤلف من عشرة رجال ينتمون إلى تيارات إسلامية جزائرية مختلفة تميل إلى التشدد كانت سامية هي الأنثى الوحيدة سافرة وتنتمي إلى ثقافة مضادة للتشدد كلياً. كان على الوفد أن يحصل على الموافقات اللازمة لدخول مصر، في ظل الأزمة المصرية - الجزائرية، التي سببتها كرة القدم، وفي ظل السياسة المصرية المتشددة في مسألة فتح معبر رفح أمام الراغبين في العبور نحو غزة، أفراداً وجماعات، فلسطينيين ومتضامنين وصحافيين! رصدت سامية كل هذه الأحداث في كتابها، انتبهت للحذر الذي تعامل به بعض المصريين معهم كجزائريين، حكت عن انعكاس هذه الأزمة على الحياة اليومية للأفراد المرتبطين بين البلدين، مصر والجزائر، حكت عن المتظاهرين المصريين في العريش وأمام معبر رفح الراغبين في فتح المعبر والدخول إلى غزة. رصدت الطريقة التي يتم فيها شحن البضائع والمواد التموينية، المسموح بها، عبر المعبر، قابلت في غزة، بصفتها عضواً في الوفد الجزائري، مسؤولي حركة حماس وقابلت عائلاتهم وأسرهم، شاهدت كيف يتم العمل على إقامة نظام سلفي في غزة لا يوافق عليه الكثير من الغزاويين! مشت في أسواق غزة وشوارعها ودخلت مطاعمها وتحدثت مع شرائح مختلفة من الغزاويين، رأت الدمار والموت الذي خلفه الاعتداء الإسرائيلي الهمجي، حكت عن المفارقات بين نظرتها السابقة وما رأته بأم عينها، ولعل أفظع ما رأته عن قرب كان اللقاء الذي حددته للوفد سلطة حماس مع معاقي او متضرري العدوان الإسرائيلي على غزة. تصف سامية المشاهد اللاإنسانية في هذا اللقاء وحجم الضرر والتشويه الذي لحق بالكثير من الغزاويين. حاولت سامية بلقاضي في تقاريرها تقديم رؤية موضوعية عن وضع غزة تحت الحصار. كانت منحازة ربما لشعب غزة المتضرر الأكبر من كل ما يحدث في السياسة الداخلية الفلسطينية والعربية بعد تضرره من الاحتلال الإسرائيلي الهمجي، منحازة لأيتام الحرب، للأطفال الذين فقدوا عائلاتهم بكاملها، للشباب الذين وجدوا أن كل أحلامهم وطموحاتهم اختزلت لتصبح الحلم بالعمل في فتح أنفاق تحت المعبر لتأمين جزء يسير من حياة كريمة لأسرهم، منحازة لإصرار الغزاويين على الاستمرار والبقاء في غزة على رغم الحصار وعلى رغم كل ما يمارس ضدهم داخل غزة وخارجها! منحازة للتفاصيل التي عاشتها خلال ثلاثة أيام في غزة وجعلتها في قلب المأساة التي كانت تسمع عنها. هذه التفاصيل التي «تحمل الآن اسماً ووجهاً وعنواناً وليست مجرد كتلة اسمها غزة» هي التي ستجعلها لاحقاً معنية في شكل مباشر وشخصي بكل ما تراه عبر الإعلام المرئي عن غزة. حاولت سامية بلقاضي توخي الحياد في تقديم صورة حركة حماس، وفرقت بين رؤيتين أساسيتين، حماس كحركة مقاومة في قلب غزة وصلت إلى الحكم بانتخابات نزيهة فعلاً، وحماس كحركة سياسية دينية متشددة تحاول فرض رؤيتها الأيديولوجية على الغزاويين.