منذ اجتماع سرت للجنة المتابعة العربية، على هامش القمة العربية – الأفريقية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قيل الكثير في مجال البحث عن خيارات بديلة في حال وصلت المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل الى طريق مسدود. يذكر ان اللجنة أخذت علماً بأن الولاياتالمتحدة دخلت في مفاوضات موازية مع إسرائيل بغية إقناع رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو بمعاودة تجميد الاستيطان تسهيلاً لاستئناف التفاوض مع الفلسطينيين. ورأى الجانب العربي ان القرار المناسب في ذلك الوقت كان إعطاء الجهود الأميركية الفرصة، وإمهالها شهراً، قبل بتّ البدائل، ثم مددت المهلة حتى نهاية تشرين الثاني (نوفمبر). وأخيراً أعلنت واشنطن انها قررت التخلي على محاولات إقناع اسرائيل، أي أنها فشلت عملياً. لكنها لم تقرر الانكفاء بل بادرت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون الى طرح مقاربة جديدة ل «عملية السلام» ترتكز الى فكرة قديمة هي التفاوض غير المباشر ومن دون شروط، بما في ذلك شرط وقف الاستيطان. يعني ذلك العودة الى بداية مهمة جورج ميتشل، العائد مجدداً لمواصلة السعي بين الطرفين كما لو أن جهود ال 18 شهراً الماضية لم تكن. كما يعني دعوة الى الفلسطينيين لنسيان «وقف الاستيطان»، تلك الورقة التي أتاح لهم باراك أوباما التمسك بها كشرط لا بد منه للخوض في المفاوضات في مناخ ملائم. أما وقد اضطر الآن الى رميها، فلم يعد مجدياً للفلسطينيين أن يواصلوا الإصرار عليها. أما بالنسبة الى الإسرائيليين فيبدو ان ادارة أوباما تريد ارجاع عقارب الساعة الى أوائل تموز (يوليو) الماضي عندما جاء نتانياهو الى واشنطن وأقنع الرئيس الأميركي بأن التفاوض غير المباشر ليس مجدياً، لأن إسرائيل لا تستطيع ان تعطي شيئاً فيه، وطلب الانتقال الى التفاوض المباشر مبدياً الاستعداد لإنجاحه في المهلة الزمنية التي يفضلها أوباما، أي في غضون سنة وهكذا كان اتفاق بين الرجلين، مما شجع الرئيس الأميركي على الضغط على العرب والفلسطينيين للقبول بإطلاق المفاوضات ولو بضمانات أقل وأدنى من تلك التي تمنوها. عندما انتهت فترة الشهور العشرة لتجميد الاستيطان لم يشأ نتانياهو تجديدها لإنقاذ المفاوضات التي عادت فتوقفت بعد اللقاء الثاني. وعلى رغم رزمة الحوافز والتعهدات التي قدمتها واشنطن فإن نتانياهو فضل المحافظة على ائتلافه الحكومي وعلى إفلات العنان للاستيطان، فيما كثف شروطه التعجيزية لإفشال المساعي الأميركية. ذاك ان أجندته الخفية تتمحور على تمرير ولاية أوباما من دون تمكينه من إحياء المفاوضات، آملاً بأن لا يبقى هذا الرئيس لولاية ثانية في البيت الأبيض، بل انه سيعمل لمنعه من التجديد. في المقابل أدرك العرب أنهم في صدد خسارة رهانهم الكبير على أوباما، ووصلوا الى لحظة الحقيقة التي يجب أن يقرروا فيها خطواتهم التالية، خصوصاً أنه لم يعد هناك أي لبس في أهداف نتانياهو وحكومته، كما لم يعد هناك أي غموض أو حتى بارقة أمل بالنسبة الى محدودية قدرات إدارة أوباما. منطقياً، عاد خيار المقاومة ففرض نفسه طالما ان التفاوض أخفق ودخل في نفق الجمود. والمقاومة المقصودة هنا هي المسلحة والعسكرية. لكن منطقيتها لم تعد تعني ضحيتها ولا وجوب اتباعها حتى لو كانت الحكومات العربية جميعاً متيقنة بأنها الخيار الوحيد المتبقي. فليس من الوارد أو المتصور ان تتطرق لجنة المتابعة العربية الى مثل هذا البديل، فحتى عرب الممانعة الذين يقول خطابهم السياسي ان المقاومة ديدنهم إلا انهم لا يمارسونها، بل لم يسبق لهم ان مارسوها. أما عرب الاعتدال فقد أصبحت القضية الفلسطينية بالنسبة اليهم في كنف التفاوض ولم تعد استعادتها الى الكفاح المسلح على جدول أعمالهم، حتى لو واصلت إسرائيل خداعها وتعنتها. كان العرب قرروا في قمة عمان عام 2001 ان السلام هو خيارهم الاستراتيجي، وإذا كان خطابهم حافظ على وتيرته الانفعالية ضد إسرائيل إلا أن تطبيقهم ل «الخيار الاستراتيجي» كان أكثر شفافية من الخطاب. وعلى رغم ان إسرائيل برهنت انها لا تعتمد هذا الخيار الاستراتيجي ذاته، لا في الخطاب ولا في الممارسة، إلا ان العرب لن يعودوا الى خيار الحرب الذي تخلوا عنه بكامل الوعي والاضطرار. ولعل نظرة الى خريطة الدول المحيطة المنخرطة عملياً في المقاومة هي لبنان، الأصغر والأضعف عسكرياً، فيما تشاركها «دويلة حماس» في غزة. وهما حالتان تمثلان حالياً النفوذ الإيراني المتمدد، أكثر مما تشكلان حالاً عربية للمقاومة. ويكاد الانشغال العربي بوجوب لجم هاتين الحالتين يوازي أو يفوق الانشغال بتطورات القضية الفلسطينية ذاتها. هناك، تالياً، إمكان التحول الى مجلس الأمن الدولي لدعوته الى استعادة الملف الفلسطيني من براثن الهيئة «الرباعية» ومن الرعاية الأميركية المنفردة، لكن الفاشلة بامتياز. والهدف من هذه الخطوة تفعيل القوانين الدولية، المعطلة بسبب المفاوضات، بغية إعطاء مشروعية لإعلان دولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967. ثمة اعترافات من البرازيل والأرجنتين والأوروغواي بهذه الدولة أصبحت على الطاولة. وسبق للاتحاد الأوروبي ان طرح هذه الفكرة ثم تراجع عنها بضغوط أميركية. الدول المعترفة قد تزيد وتتوسع، وقد تنجح في إصدار اعتراف مماثل من الهيئة العامة للأمم المتحدة، إذا تأكد ان الولاياتالمتحدة ستحبطه ب «الفيتو» في مجلس الأمن. لكن واشنطن ترفض هذا التحرك العربي المزمع برمته، وقد أبلغت العواصم المعنية بموقفها، وكان ذلك قبل اعلان فشلها في اقناع حليفها الإسرائيلي بوقف الاستيطان، ويرجح ان تحافظ على هذا الموقف باعتبار انها باشرت تحركاً لتجديد المفاوضات غير المباشرة. وفي الوقت نفسه لا تبدو الدول الكبرى متحمسة لتغيير آلية التعامل الحالي مع الملف الفلسطيني، وليس متوقعاً ان تنبري الصين – غير المتمتعة بعضوية «الرباعية» – لدور استثنائي وناشط ولمناكفة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط. تتميز هذه المرحلة في أزمة المفاوضات بأنها تبدو كأنها أسقطت عملياً الاعتراف الذي سبق للسلطة الفلسطينية ان لوحت كبدائل يمكن ان تكون عربية. فالرئيس محمود عباس الذي يهجس منذ مدة بالتنحي والاستقالة لم يعد يرى فائدة في مثل هذه الخطوة. كما ان طرحه حل السلطة واعادة الضفة الى الاحتلال الإسرائيلي بقصد حشره وإحراجه، ما لبث أن سحب من التداول إذ ليس مؤكداً أنه سيؤدي الى النتيجة المتوخاة، فإسرائيل يمكن عندئذ ان تحاصر مناطق السلطة ولا تعيد احتلالها، أسوة بحصارها قطاع غزة. من هنا يبدو ان الخيار البديل العملي هو التعامل بإيجابية مع التحرك الجديد لجورج ميتشل، على رغم خيبة الأمل، وبالتالي الاستمرار في مواكبة المسعى الأميركي لا لشيء وانما لأن هناك مناخ خلاف واستياء بين ادارة أوباما وإسرائيل قد يؤدي الى فرط ائتلاف ليكود مع أحزاب اليمين المتطرف. وهكذا سيجد الحائرون العرب ضالتهم في تجديد المراهنة على أوباما الذي أفشلته إسرائيل لكنه لا يعتزم سحب ملف الشرق الأوسط من أولوياته، كما تمنى نتانياهو وتوقع، بل جدد خياره الذي يمكن أن يكون الخيار العربي أيضاً، وهو ان البديل من التفاوض هو التفاوض. * كاتب وصحافي لبناني