مررتُ قبل أيام بجوار تمثال الكاتب والصحافي سمير قصير، الذي صممه الفنان الفرنسي لوي ديربري في وسط بيروت. تأملتُ سرّ الكتابة وخطورة القلم، وكيف أن هذا الصحافي اللاذع كان يشقّ بقلمه وبزاويته قبراً وموتاً مدوّياً. تجذبنا الشخصيات الجريئة في كتاباتها، التي استطاعت أن تعبّر عن أفكارها من دون مواربة، لأنها تحقق وتقوم بما نعجز عنه، ذلك أن معادلة الكتابة لدينا، معاشر العرب، منذ فجر التاريخ تمرّ بتنقيات كثيرة، وتخضع لحسابات متعددة، ومن النادر أن نعثر في الكتابات العربية على كاتب يمارس كل أدواره النقدية من دون خضوع أو استسلام، ولعل هذا ما يفسّر الاحترام لكتب الراحل سمير قصير. حينما رجعتُ إلى كتاباته السياسية التي وفّرتها «دار النهار» للقراء عبر طبعها في كتيبات أحدها تحت عنوان «عسكر على مين» والآخر تحت عنوان «ديموقراطية سورية واستقلال لبنان»، بهرتْني حروفه. ففي الكتابين يحاول جهده أن يرصد كل العوامل التي يمكن أن تساعده على النقد السياسي والاجتماعي. فهو مهموم الى حد الهوس بتاريخ بيروت والتي خصص لها كتاباً من ألف صفحة صار الكتاب من أهم المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ بيروت. تحت عنوان «عصابات بيروت»، كتب سمير قصير تحليلاً ذكياً عن سرّ توافد اللبنانيين على حضور فيلم «عصابات نيويورك» والذي غصت به صالات السينما، وهو فيلم يحمل أفكاراً حادة وشديدة الخطورة لأنه يشرح أسرار التجاوب التي يمكن أن تلعبها الطبيعة البشرية مع دور دانيال داي لويس الذي قام بدور «الجزّار». في مقالته تلك عن عصابات بيروت يقول: «ثمة أكثر من سبب لكي يتوافد اللبنانيون لحضور عصابات نيويورك. الدرس الكبير الذي يستخلصه البطل من الفيلم هو أن صراعات العصابات التي تلهّى بها مع رفاقه الإرلنديين وخصومهم «السكان الأصليين» في هذا الحي سيلفّها النسيان فيما التحولات الكبرى جرت وتجري وستظل تجري خارج حلبة حروبهم الصغيرة»! (ص 105). ينتقد بعض المسؤولين في لبنان ويقترح عليهم بعض البرامج التي يمكن أن يقضوا بها جلسات سمرهم، فيكتب: «قد يكون مفيداً، مثلاً، تزويد مقر مجلس الوزراء بشاشة كبيرة، واستئجار آلة للعرض السينمائي على أن يراعى في البرمجة مبدأ التثقيف السياسي الذاتي، إلى جانب المتعة الفنية، علهم يدركون عند ذلك بعض ما هم عليه». يقترح تخصيص ثلاث جلسات لثلاثية «العراب»، وجلسة لفيلم «قيصر الصغير» (أبيض وأسود، إخراج مرفين ليروي) ويجدد رهانه على ربط فهم اضطرابات الشام بفهم الطبيعة المافياوية التي تحكم التحرك السياسي والأمني، يعلق على جدوى مشاهدة فيلم «قيصر الصغير» بقوله: «نجد فيه هذه الجملة الجوهرية، أريد القانون في يدي». لقد أسس سمير قصير عبر كتاباته نافذة من «اليسار المركّب» الذي يفتت جمود اليسار القديم، ليأتي بفكره الحديث وبثقافته الواسعة التي استمدها من حفر فكري وكتابي بين فرنساوبيروت ليجد نفسه أمام مخزون رؤى صحافية ولغوية وفكرية وسياسية عصية على النضوب. جسد بكتاباته الدقيقة أسطورة «خطر الكلمة» باغتياله ليجدد سمير للكلمة طوقها، ليثبت بُعداً أزلياً للكلمة التي يموت بسببها صانعها وهي تحيا بموته. ومع انتقاداته الحادة للسياسيين في لبنان، لم يأنف من التعاطف معهم: فهو ينتقد اللبنانيين حباً بلبنان، ولا أدل على هذا من انتقاداته الحادة لرئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، غير أن تلك الانتقادات لم تمنعهما من إيجاد صداقة عميقة. إنها التركيبة الكتايبة المعقّدة حينما يتم الفصل بين الكتابة بوصفها «حالة» وبين الصداقة بوصفها «العقد» الروحي بين كائن وآخر يقفان مع بعضهما بعضاً وقت الشدة وينتقدان بعضهما بعضاً ساعة الخطأ. تجربة سمير قصير تعلم الناس أن صانع الكلمة قد يموت ولكن بعدها «تحيا كلماته القاتلة». * كاتب سعودي