قرأتُ مقالة للكاتب عبد القادر الرباعي عن سطوٍ أكاديمي على بحثه «دراسة المعنى بالصورة في الشعر الجاهلي: تفسير أسطوري» الذي نشر لأول مرة في المجلة العربية للعلوم الإنسانية (عدد 6، مجلد 2، 1986). وكان الساطي – بحسب الرباعي - أستاذاً في جامعة عين شمس هو مصطفى عبد الشافي الشورى في كتابه «الشعر الجاهلي: تفسير أسطوري» (دار المعارف، 1986). وقد أثبت الرباعي عدداً مهولاً من المواقع في دراسة الشورى نقل فيها تقريباً حرفياً من الرباعي دون أدنى إشارة إليه. بل إنه لم يضع بحثه الذي سطا عليه في مراجعه، مما يعني سبق الإصرار والترصد، كما يُقال في علم الجريمة. ذاك أنَّ هذا السطو وأمثاله جريمةٌ – إن ثبتت – فعليةٌ لا تختلف في أساسها عن سطوٍ مسلح على بنكٍ أو بيت تذهب فيه ضحايا وتراق دماء. ذاك أن الجهد الإبداعي الذي تضعه البشر في كتبٍ وما شابه إنما هو المال الذي سُطِيَ عليه وتلك الدماء التي استُبيحت والأرواح التي زُهقت بادعاء شخصٍ عربيد أنه صاحب تلك الأفكار، ووالدُ تلك المعاني، فالبحوث والكتاباتُ إنما هي كائنات ومخلوقات لها ما للإنسان من حرمة. ولا يختلف الأمر عن سرقة وليد من مستشفى أو طفلٍ من أمام بيته وادعائه طفلاً لوالدين آخرين، أو التصرف بأعضائه وبيعها. هذه الصورة القبيحة للسطو لا يدلُّ عليه تماماً المصطلح المهذَّب «السرقة الأدبية» التي عنون بها الرباعي مقالته، فالأمرُ في حقيقته ليس سرقةً أدبية فحسب بل قرصنةً؛ ذلك أن الأمر يتجاوز في حالاتٍ معروفة وأخرى ما تزال طيَّ الغيب، أن يسرق الشخصُ أفكاراً من آخرين ويضعها في بحث أو دراسة أو مقالة، إلى أن يحصل فيها السارقُ على درجةٍ علميةٍ أو جائزة من جوائز الفكر والأدب، مما يستتبع جاهاً وشهرةً ومالاً، أي أن يستمتع القرصانُ بنِعَمِ غيره ممن كدحَ حتى أوجدها بينما حصل عليها (على البارد المستريح)، كما حدث في جائزة الشيخ زايد للكتاب وسحبها من الجزائري الدكتور حفناوي بعلي!! وقد درسنا السرقة الأدبية في سياق البحث العلمي وضرورة تحلّيه بالأمانة العلمية، كما توقفنا عندها في دراستنا للنحل في الشعر الجاهلي، أي نسبة الشعر لغير صاحبه، فإذا فعل ذلك الشاعر المدَّعي كان سرقةً و(لطشاً) وجريمةً كاملة الأركان، كما حدث في قصة «القصيدة اليتيمة» التي ادعاها رجل آخر بعد أن قتل صاحبها «دوقلة المنبجي»: «هل بالطُّلولِ لسائلٍ رَدٌّ أم هل لها بتكلُّمٍ عَهدُ»، التي ذهبَ بها إلى ملكة اليمن «دعد» حيث عاهدت نفسها أن لا تتزوج إلا من يمتلك الفصاحة والبلاغة وأفضل قصيدة، وفيها يقول: إنْ تُتهِمي فتهامةٌ بلدي أو تنجدي إن الهوى نجدُ». عندها – كما تقول الرواية التي يظهر فيها الوضعُ – هبَّت دعدُ صائحةً: «اقتلوا قاتل زوجي»، لأنها عرفت أن السارق القاتل لم تكن تنبئ لهجته عن تهامة. وليس من هذا المسار كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» (دار الكتب المصرية، 1926) الذي كان محوراً جوهرياً لرسالة الدكتوراة التي قدمها ناصر الدين الأسد «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية» (دار المعارف، 1960)، ونصَّ فيها على أن طه حسين كان سطا على مقالة المستشرق الإنكليزي مارجليوث في الشعر الجاهلي. ولكن مارجليوث كان كتب تبرئة لطه حسين في مقالة أخرى بعد ثلاثة أعوام من صدور كتابه المشار إليه والضجة التي أثيرت عليه، أي عام 1929، وهو ما لم يُشر إليه البتة ناصر الدين الأسد ولا غيره من الجهابذة الذين ودُّوا تمزيق طه حسين شرَّ ممَزَّق، ومحوه وأطروحته الفكرية من الوجود!. وبذا تكون رواية «النَّحل» في الشعر الجاهلي رواية ناقصة ومنقوصة. وتبقى أطروحة طه حسين أول دراسة أكاديمية مكتملة حول النحل والانتحال، أي ادعاء النص، أي السرقات وأنواع الغش والوضع والتساهل والتهاون في الكتابة الإبداعية، وإلى دراسة طه حسين يعود الفضل في ازدهار علم تحقيق التراث منذئذٍ. وإذا كانت الجامعات تعلِّم الطلبة الالتزامَ بالأمانة العلمية، وحسنَ التوثيق، والإشارةَ إلى المصادر والمراجع بحسب الأصول، فإنَّ لظاهرة القرصنة المعرفية انتشارها هذه الأيام، بحيث لم يقف الأمر عند الصحافة وسطوها على المواقع الإلكترونية، في علاقة متبادلة، بل وصلت إلى معقل الأمانة العلمية، وهو الجامعات. وها هي الأمثلة تترى على أساتذة لا يتورعون عن انتحال الأفكار والنصوص والمعاني حرفياً، مما يعني أن التعليم الجامعي قد بلغ حضيضاً، وكذلك البحث العلمي، وهو حضيضٌ آخر مما تنامُ الأمة فيه. وإذا كان المكان ليس مناسباً للبكاء على طلول الأمة، فإن من أجدى ما نفعله في هذا السياق أن تدرَّس «الأمانة العلمية والقرصنة المعرفية» في مساقات متخصصة ينكبُّ فيها الطلبة على تمحيص المكتبة العربية والرسائل الجامعية التي ينال بها أصحابها شرف الدرجة العلمية بلا شرفِ العلم!! وإذا كانت اللصوصية على كتابٍ أكاديمي أو غير أكاديمي أوغيرهما من أواني المعرفة، ليس شأناً شخصياً يخصُّ الباحث أو المبدع فحسب، فإنه من شأن المؤسسة المعرفية، سواء أكانت جامعةً أم دار نشرٍ أم مركزاً ثقافياً أم وزارةً ما، أن تتولى فضح هذه الممارسات، والاقتصاص لها، إذ لا يصحُّ أن تدار المعركة من الأفراد المتضررة فحسب، ولا بد من أن تكون جزءاً من دَوْر المؤسسة في حماية التراث الفكري والإبداعي للأفراد، كما للأمم. وهنا لا نستطيع أن نتجاهل القرصنة المنظمة على التراث العربي الفلسطيني من دولة العدو الصهيوني، والمتاجرة به دولياً وعالمياً. وهذا تماماً ما يفعله هذا القرصان أو ذاك، من فارغي الموهبة ومعتلِّي الأخلاق. ويبقى أن نتداعى لتشديد العقوبة على الجاني إذا ثبتت جنايته لا بسحب الجائزة أو الدرجة العلمية فحسب، بل وبالغرامة المُكلفة والسجن أيضاً، فالقوانين التي تغرم سارقاً للمال بالسجن والمال دون أن يكون لسرقة الأفكار والإبداع من عقوبة مماثلة، تعني في نهاية المطاف أن المال أهم بكثير من الفكر والإبداع. ومن هنا نحرِّضُ المؤسسات المعنية بالملكية الفكرية ومنظمات الأدباء والكتاب إلى الضغط لتطوير عقوبات رادعة تجعل الشخص المعتل في ضميره وخلقه يفكر طويلاً قبل أن يُجازف بسرقة ما لا يملك. ناهيك عن أن المنظومة الأخلاقية للشعوب العربية باتت بحاجة إلى مراجعة جذرية، وهي أولى مهمات وزارات التربية والتعليم في هذا الوطن المترامي الأطراف والهموم!!!