الموسيقى كالحب ينبغي ان يكون المرء فيها صريحاً (فيردي) وتلك العشيَة كان عبدالرحمن الباشا صريحاً الى اقصى حد وجعلنا نصفق له بكل صراحة وحرارة. على مسرح اوتيل البستان وبدعوة من جمعية متخرجي المقاصد الخيرية الاسلامية تألق الباشا في امسية راح ريعها لصالح مستشفى السرطان التابع للجمعية، وأمتع سامعيه على مدى ساعة من الوقت مرت كأنها برهة أثيرية لما تتحلى به روح العازف والموسيقى من رهافة وشفافية. تلك العشية تألقت أنامل الباشا عزفاً وتألقت أيدينا تصفيقاً حتى احمرت من شدة الفرح بهذا العربي اللبناني المقيم في فرنسا برفقة فنه وموسيقاه بعيداً من صخب السياسة وضوضائها، قريباً من روحه العذبة ونفسه الشجية. ليس غريباً على عبد الرحمن الباشا أن يكون مُفعماً بالموسيقى الى هذا المستوى وهو ابن فنانين مبدعين هما توفيق الباشا ووداد، تشرَب منهما روح الشرق وحملها معه الى الغرب الذي نهل منه علماً وتقنيات تصقل الموهبة وترفعها الى اعلى. لذا لم يكن غريباً ايضاً عليه ان يبرع في عزف موسيقى سواه. وتلك العشية فاجأنا الباشا بأنه مؤلف موسيقى بارع تماماً كما هو عازف بارع، حيث قدم لنا مقطوعات خمساً من تأليفه الى جانب مقطوعات ذائعة الصيت لبيتهوفن وشوبان واّلبينيز (albeniz) ولست أغالي إذ أقول أن الباشا كان ساحراً في حالتيه، وأن موسيقاه تملك من السطوة والمقدرة على النفاذ ما يضعها في مصاف موسيقات العالم. العازف لا آلته. هذه الحقيقة يستعيدها التلقي وهو يصغي لعزف الباشا وموسيقاه، حيث يغدو البيانو بكل عظمته وجبروته خفيفاً مثل ريشة تحت وقع أنامل يخالها المرء من رقتها كأنها رماد، أو كأنها نسيم يمر على مفاتيح الآلة فيزيدها سحراً وغواية حتى ظننت الفراشة التي حامت حول ضوء على الخشبة نوتةً طارت من بين يديه. حين قلت له، أي للباشا أنني خلت الفراشة نوتة من موسيقاه ابتسم بخفر هو سمة كل مبدع حقيقي وأطرق قليلاً، ثم أخبرني أنه حين يجلس الى «البيانو» في منزله الفرنسي ويبدأ العزف تتكاثر العصافير على الاشجار في حديقة البيت. لم استغرب لأن لا أحد (ولا أقول «لا شيء» إذ يصعب عليَّ وصف الموسيقى الا بصفتها كائناً حياً) أجدر من الموسيقى باستضافة العصافير، خصوصاً إذا كانت طالعة من جوف الروح كما هي الحال مع عبد الرحمن الباشا الذي يعد واحداً من أبرع عازفي العالم. ملاحظة أخرى أوردتها على مسامعه مفادها أن الحنان لا يغادر أنامله العازفة على البيانو حتى عندما تكون الموسيقى صاخبة أو قوية حيث نجد بعض العازفين يتعاملون مع آلتهم، في تلك الحالة، بشيء من الحدَة أو القسوة، ابتسم ثانيةً من دون أن يغادره الخفر، وقال لي أن نقاداً موسيقيين في الغرب يردُون حنانه ورقته في العزف أو في «العلاقة» مع البيانو الى وجدانه الشرقي، وهذا صواب في جانب منه لولا لم يكن ثمة عازفون شرقيون أكثر شدَة وقسوة في عزفهم من بعض الغربيين والعكس صحيح. إذاً، الى الوجدان الشرقي لدى الباشا ثمة رهافة في الحس، ورماد خصب في الأنامل يمنح موسيقاه هذا الوهج السحري الذي يجعل سامعيه من البشر محلقين في الاعالي تماماً كما العصافير التي الى ضيافة موسيقاه كلما هبت أنامله كالنسيم على مفاتيح «بيانو» يفتح أبواب القلوب.