الموت... ذلك الزائر ثقيل الظل، شديد المرارة، الموغل في اجتثاث الفرح من قلوب الجميع، هو الحقيقة الأزلية التي لا مفر منها ولا منأى عنها، ولا يستطيع كائناً من كان دفعها أو ردها، فسبحان الله الحي الذي لا يموت، جامع الناس ليوم لا ريب فيه. لعمرك ما الرزية فقد مال ولا فرس تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت لفقده خلقٌ كثيرُ حقيقة اجتاحتني مشاعر حزينة أثناء تأدية فريضة الحج لهذا العام، فقد وصلنا نبأ وفاة الأميرة حصة بنت خالد بن عبدالعزيز، رحمها الله تعالى، وأنزل عليها شآبيب رحمته، وفور وصول الخبر والجميع يلهج بالثناء عليها ويتضرع بالدعاء لها، ولقد تأثرت كثيراً وآلمني النبأ أيما إيلام، وحزنت وكأنها أحد أفراد عائلتي، على رغم عدم معرفتي الشخصية والمباشرة لها، وأحزنني ما تعانيه خالتيّ جواهر وحصة بنتا سعد السويلم جراء فقدها، إذ تربطهما بالفقيدة وبعائلتها وأسرتها الكريمة صلات عدة ومعرفة وطيدة وصداقة عمر عميقة، وشعرت بافتقادهما الرهيب لها وشاركتهما بعظم حجم حزنهما، فما بالكم بحزن أفراد أسرتها من والدة وأبناء وبنات وأخوات وإخوة، اللهم أحسن عزاءنا فيها، وعظم أجرنا جميعاً، وألهم الجميع الصبر والسلوان والسكينة والطمأنينة والثبات، ولا نقول إلا (إنا لله وإنا إليه راجعون). لعمري إن الفقيدة مثلت الأنموذج الفريد للمرأة السعودية الحقة، وهي ذات مكانة عالية تربعت فيها على عرش قلب كل من عرفها أو سمع بها، فقد كانت مثالاً يُحتذى في حب الخير والبذل، كما أنها تعد ثروة فكرية وثقافية لا تجارى، وعلى درجة عالية من التواضع ودماثة الأخلاق، محبة ومبادرة لأعمال الخير والبر وساعية لها، جعل الله كل ما قدمته طيلة حياتها، وما هو مستمر بعد وفاتها، متقبلاً مشكوراً وفي موازين أعمالها الصالحة، وضاعفه لها أضعافاً كثيرة. فقد كانت مؤسسة ورئيسة للجمعية الفيصلية النسائية بجدة، التي تبرعت بمقرها والدتها الأميرة صيتة بنت فهد الدامر، وقد ترأستها الأميرة حصة، رحمها الله، وأدارتها منذ عام 1396ه - (1975)، ولمدة 17 عاماً من العطاء المخلص والتفاني حد إنكار الذات، والبذل بسخاء لخدمة فئات مختلفة محتاجة من المجتمع، وكانت أبرز نشاطاتها في الجمعية تقديم الخدمات الاجتماعية لإعانة الأسر المحتاجة، ودعم قسم خاص لرعاية الأيتام، وإقامة النشاطات الثقافية والعلمية من محاضرات، وأبحاث، ودراسات، كما عملت على تأسيس مكتبة في الجمعية لرفع الوعي الثقافي والمعرفي لدى المرأة، وإيجاد قسم لتعليم الفتيات ذوات الاحتياجات الخاصة مهارات الخياطة والتطريز. ولا أملك إلا رفع أكف الضراعة لله عز وجل بأحر الدعوات لها بالرحمة والمغفرة، وأصدق التعازي والمواساة لوالدتها الفاضلة الأميرة صيتة بنت فهد الدامر، والأمراء إخوانها، والأميرات نورة والجوهرة ونوف وموضي والبندري ومشاعل، ولأبنائها وكريماتها ولجميع من أحبها وعرفها، ووالله إني كلما طالعت مقالات كتبت بعد وفاتها من العارفين بها، والمعددين لمآثرها، والمثنين على مناقبها، والشاهدين على أعمالها، أزداد حزناً على فقد المجتمع لها، وأسأل الله الثبات، كما أزداد ثقة وتتضح لدي الصورة أكثر من أن تلك المناقب عامة شاملة تملكها كل أخواتها، ولعلي أجد الفرصة سانحة لأخص بالذكر الأميرة موضي بنت خالد بن عبدالعزيز، تلك الإنسانة الفاضلة الرائعة في كل شيء، التي هي ليست مدرسة فحسب بل هي جامعة تمشي على الأرض ليتعلم منها الناس الدروس في سمو الأخلاق وحسن التعامل (الإتيكيت) وحب العلم والتواضع الراقي الذي لا يصدر إلا من كريمة ملوك وسليلة أمجاد تشربت الرفعة وسادت بالعزة واشرأبت بسمو الأدب، فيا لروعة التواضع، ويا لقمة الأخلاق التي لمستها ورأيتها بأم عيني، كما رآها كل من حضر مناقشة رسالتي الدكتوراه، فلقد حظيت بشرف دعوة الأميرة موضي بنت خالد بن عبدالعزيز لحضور مناقشتي، فما كان منها إلا أن رحبت بي وهي لا تعرفني معرفة مباشرة، وشكرت لي ولبت الدعوة مشكورة، وتركتني مبهورة بتلك الأخلاقيات السامية وتلكم الشخصية النبيلة القيادية العظيمة التي ليست بمستغربة منها، إذ يحق لها أن تختال من الفخر والشرف، فوالدها جلالة الملك خالد، رحمه الله، ووالدتها الفاضلة الأميرة صيتة بنت فهد الدامر، ومتعها بالصحة والعافية، لكن الأميرة موضي اختارت التواضع ولين الجانب واللطف الذي يجعل مستقرها سويداء القلب، فقد صنع حضورها رونقاً خاصاً لمناقشتي وجعل قدماي لا تكادان تلامسان الأرض من السعادة. وكدت أطير فرحاً لحضورها وتشريفها الكريم وتلبيتها الدعوة بكل رحابة صدر، على رغم مشاغلها الجمة ومسؤولياتها الجسيمة، ولا أرى ذلك إلا شاهداً على عظم التلاحم الصادق والمشاركة الحقيقية والاندماج الكامل بين أفراد الأسرة المالكة الكريمة وأبناء الشعب الوفي. ولا أراني أبالغ في وصف ذلك اليوم الجميل الذي لا يُنسى، كونه مناقشة رسالة دكتوراه، وأضاف حضور الأميرة موضي إليه جمالاً على جمال، وأضفى عليه طابعاً خاصاً مختلفاً ذا أبعاد خيالية، فقد أصبح يوماً تاريخياً أعتز كثيراً به وأتشرف بوجودها، إذ كانت من أوائل الحاضرات، فهل تتخيل معي أيها القارئ الكريم لقد حضرت وجالست والدتي وأختي وهي لا تعرفني معرفة شخصية، وهنأتني وأثنت على ما رأته وسمعته مني وشجعتني، فيا لعظمتها ويا لحسن خلقها أن تقتطع من وقتها الثمين لتلبي دعوة لأحد أفراد الشعب، في حين أنه قد يكون هناك أشخاص عاديون ومعرفتهم عميقة ولم يحرصوا على تلبية الدعوة، والله مهما تحدثت فإنني أقف عاجزة عن وصف مشاعر الفرح والفخر والاعتزاز التي تملكتني لحظة دخولها قاعة المناقشات، ناهيك عن أسلوبها الراقي وتواضعها الجم ومجاملتها بعدم تركها للمكان إلا بعد انتهاء الاحتفال البسيط الذي يقام عادة في مثل هذه المناسبات من الحصول على درجة الدكتوراه، فبارك الله فيها، وأسأل الله أنه بمثل ما أدخلتي على قلوبنا السعادة بحضورك الكريم أن يجعله في ميزان أعمالك الصالحة. وأخيراً وليس آخراً، لا يسعني إلا أن أبتهل لله العلي القدير أن يغفر لوالدكم الملك خالد، طيب الله ثراه، ويرحم الأميرة حصة بنت خالد برحمته الواسعة ويسكنها الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يرفع قدركم في الآخرة كما رفعه في الدنيا. أروى بنت عبدالكريم الحقيل جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن