اعتبرت تسعينات القرن التاسع عشر التاريخ الذي شهد ولادة الصحافة الطرابلسية الذي شكل نقطة تحول مهمة على صعيد مستقبل طرابلس الثقافي والاجتماعي والسياسي. من هنا وجبت الإضاءة على المواضيع والأبحاث التي تناولتها بعض الصحف الطرابلسية التي خضعت لقراءتنا ومنها جريدة «طرابلس الشام» وجريدة «الوجدان» لمؤسسها المحامي والصحافي الشيخ محمد سامي صادق الذي مارس مهنة المحاماة في العشرينات من القرن الماضي، وشغل منصب نقيب للمحامين في مدينة طرابلس إبان تلك الحقبة التاريخية. وتبدو أهمية النقلة النوعية التي خطتها «الوجدان» من خلال أخبارها وما حملته أعمدتها من معلومات وأخبار يومية ومقالات متنوعة عكست هموم أبناء الفيحاء، بالإضافة الى تناولها المواضيع السياسية المتعلقة بالدولة العثمانية الى جانب القضايا الداخلية، لذلك كان لا بد من قراءة متأنية لجميع ما ورد فيها من أخبار بغية معرفة اثرها الفعال في الرأي العام الطرابلسي الذي وجد نفسه أمام تجربة جديدة وفرت له فرصة التعبير عما كان يجول في خاطره، وما تحتاجه مدينته من مشاريع انمائية على مختلف الصعد الاجتماعية والعلمية والاقتصادية، بغية تمتين الدور التوجيهي والاجتماعي والأخلاقي الذي قامت به الصحافة الطرابلسية التي ارتبطت مباشرة بمستقبل المدينة وتطورها الاجتماعي والديموقراطي. ففي ما يخص المواضيع والأبحاث التي عالجتها جريدة «الوجدان» التي صدر العدد الأول منها بتاريخ 8 تموز (يوليو) 1910، سارعت الجريدة الى الحديث عن المواضيع الوطنية والأدبية والإصلاحية والسياسية والتربوية ومواضيع متفرقة حول الرذيلة والفضيلة والتفرقة والعقل والنفس وأبحاث اخرى متعلقة بأخبار الدولة العثمانية وبالأخبار المحلية لمدينة طرابلس. كما كان من أبرز مواضيعها مسألة حقوق المرأة تحت عنوان «حقوق المرأة والمرأة والحقوق»، إذ دعا محررها الى مساواة المرأة بالرجل بقوله: «فالمرأة والرجل صنوان متساويان لا يميز الواحد عن الآخر من حيث هما مخلوقان من مادة واحدة، للمرأة من المواهب السماوية بقدر ما للرجل من عقل مفكر، كما تستطيع أن تبرع في أي فن تميل إلى إتقانه». وعن أهمية المطالعة بالنسبة الى المرأة، يورد الشيخ محمد سامي صادق: «لا يرى لأحد في العالم سبيل الى انتقاد المرأة إذا كانت تشغل اوقات فراغها بمطالعة الكتب والجرائد المفيدة المعدّة لتغذية القوى العقلية، كما أنه ليس من التعقل أن تزدرى المرأة ويضغط عليها إذا كانت تستغنم الفرص لاقتباس الفوائد العلمية، ومن الافتراء الفادح أن يمتهن بالمرأة ويجاهر بتركها على جهلها وأن يحمل عليها حملة شعواء بهذا الصدد». ولا شك في ان طرح هذه الآراء على صفحات جريدة «الوجدان» يعكس المستوى الفكري المتقدم ويبرز أهمية الأفكار المستنيرة التي لم يألفها القارئ الطرابلسي بداية القرن العشرين. كما انها تضيء على حال المرأة الطرابلسية التي حرمت من فرص التعليم ومن سبل التزود بالعلوم والمعارف. وتحت عنوان «الى متى نحن في خمول» دعا صادق الى ضرورة نبذ الحسد والبغضاء، بخاصة بين رجال العلم والذكاء، مشدداً على أهمية العلم والجد والمثابرة لبناء المجتمعات. فالشعوب التي تفقد الرجال الذين في وسعهم ان يقودوها الى الرقي لا يتسنى لها أن تكون من الشعوب ذات الاعتبار في المجتمع. من هنا وجّه نداء الى قومه قائلاً: «يا قوم! لقد كفاكم ما أنتم فيه من الهجوع الطويل، فاستيقظوا من ذلك حتى لا يقال انكم أموات في صورة أحياء أخلدتم للكسل واعتدتم على التواني والإهمال وقبعتم بالحالة التي تستبكي الحجر الصلد وتستعطي سماء الرحمة، فهل أنتم منتهون». أما موضوع التفرق، فقد أشار اليه محرر الجريدة باعتباره من أشد الأسباب وأعظم البواعث لسقوط الأمة المتفرقة، ولكي يبيّن خطورة هذا الداء الاجتماعي تطرق الى موقف الشرائع الإلهية والمدنية التي تحرم التفرق لأنه مضر بالنوع والعقل الإنساني الذي يحرّم التفرق للعلة نفسها، ويبدي عجبه: «من للإنسان الجائر الذي يعرف عواقب التفرق وما نتج منه من الآثام والشرور ولا يسعى لتلافي الضرر والقضاء على تلك الآفات». أما المواضيع الوطنية فلقد شمل الحديث عنها في جريدة «الوجدان» حب الوطن والاتحاد. فحب الوطن كان من المواضيع الحساسة والمهمة التي استأثرت باهتمام أبناء الفيحاء بداية القرن العشرين، وسبب ذلك هو تأثر الشيخ صادق بالأفكار الوطنية التي كانت تنشرها بعض المجلات والجرائد التي كانت تصدر خارج حدود طرابلس الشام. من هنا وجدنا محرر الجريدة ينبري للكتابة عن هذا الموضوع: «كيف يكون حب الوطن؟»، فالوطن برأيه هو «سمعنا الذي نسمع وبصرنا الذي نبصر ورأسنا الذي يفكر ولساننا الذي نتكلم، هو روحنا الذي نحيا بحياته ونموت بموته». أما موضوع الاتحاد، فأشار الى أهميته في صون الأمة والحفاظ على تماسكها، لذلك يعتبر ان الاتحاد هو ثمرة من ثمرات العلم، ونتيجة من نتائجه، وكلما كانت الأمة بعيدة عن الجهل، كانت آخذة بأسبابه ومتمسكة بعراه. وما فشا الجهل في أمة إلا واستحكمت حلقات الاختلاف في قلوب أفرادها. أما موضوع الصحافة فلقد تطرق إليه الشيخ صادق من خلال تتبعه وضع الصحافي في بلاده مفتتحاً مقالته بالمقارنة بين حقيقة الصحافي والمنزلة التي يحرزها في بلد غير بلده. من هنا وجد ان الصحافة في بلاده أضرت أكثر مما نفعت وفرقت أكثر مما دعت الى الاتحاد، والصحافة وجدت لتخدم الحقيقة لا لتخدم الأهواء والأغراض. وما ينشده من الصحافي هو الشجاعة الأدبية وألا يدع للجبن سبيلاً إليه. أما وظيفة الصحافي الأساسية فيرى أنه عليه ألا يخط حرفاً واحداً لقاء منفعة ذاتية، يكون من وسائلها تضليل العقول واستمالة النفوس، وفي رأيه «ان الصحافيين هم بين رجلين: رجل لا يعرف من الصحافة إلا اسمها فيظن ان في قدرته ان يرضي القراء كلهم فيقدم حيث يضره الإقدام، ورجل يصلح ان ينخرط في هذا السلك لما لديه من القدرة على التحرير ولكنه يتخذ تلك القدرة في سبيل غير السبيل التي خلقت...». لذلك يرى ان ما ينبغي التوقف عنده هو درجة الوعي التي يجب ان يتمتع بها الصحافي في عصر غابت عنه معاهد التخصص الإعلامي، فالشيخ صادق يطرح المواصفات الموضوعية التي تجعل من الصحافي أهلاً للمهمة التي يقوم بها في ميدان الصحافة، لذلك فهو يشدد على ضرورة الالتزام برسالة الصحافة حتى يستطيع الصحافي ان يقوم بدوره في عمليات الإصلاح والنهوض والإرشاد. وحول موضوع التعصب والمتعصبين رأى صادق ان التعصب الذميم الذي يستفحل في أمة يفرق شملها ويفضي بالبلاد الى الدمار والخراب. وأخطر ما في التعصب الذميم هو ما يكون في الدين والمذهب والقوم والفرد. وعلى قدر ما يكون الجهل مستفحلاً يكون تأثيره في الأمة التي يكون أفرادها متعصبين. ويحذر من آفة التعصب بالدين وبرأيه ان الدين يقضي بالتسامح واللين، وأنه يحظر كل ما من شأنه ان يعكر صفاء الألفة والاتحاد. من هنا يرى الشيخ محمد سامي صادق «انه لا ذنب على الدين في استفحال امر التعصب بين المتدينين وإنما الذنب كل الذنب على أناس طاش عقلهم فأخذوا يظهرون من الغيرة على دينهم ما هو في غنى عنه». وعن موضوع حرية الفكر، يورد صاحب «الوجدان» الكثير من المواقف التي تبين أهمية حرية الفكر من خلال وقوفه على آراء البعض فيقول: «الذين يسوؤهم جهل أمر بمسألة قوية وبرهان ساطع، وكذا إذا أفصح عن رأي سياسي يناهض سياسة اليوم حسبوه تارة معارضاً وطوراً محافظاً وأحياناً مناهضاً للحرية والدستور». على أن صاحب «الوجدان» على رغم وجود أمثال هؤلاء الناس، فإنه لا ييأس من وجود زمن تكون فيه حرية الفكر مستحكمة الحلقات بين المفكرين من افراد الشعب، كما انه يتطلع الى «الزمن الذي توجد فيه أحزاب تكون غايتها النهوض بالوطن من الجهل والفساد وإن اختلفت الطرق المؤدية الى الإصلاح المنشود». ويختتم مقالته منادياً ب «حرية الفكر» فيقول: «يا لله لحرية الفكر التي اصبحت مختصرة في بلادنا وأوشك كتمانها في الصدور ان يكون خطراً على حياتنا الاجتماعية». ولا شك في ان هذه الآراء التي طرحها محرر الجريدة تشكل نقلة نوعية لما تتضمنه من افكار جريئة وتصور مميز يقف على مكامن الأخطار التي تهدد الحياة الاجتماعية إذا ما انعدم فيها الرأي الحر. وفي موضوع الفساد كتب مقالة تحمل عنوان «أفسدوك ايها الشعب» تطرق فيها الى حال الشعب الذي غرق في دياجير الظلمة والجهل والفساد محملاً مسؤولية الفساد للكثير من المفسدين، متوقفاً «عند دور الجرائد وحملة بعض الأقلام فيها، وعند الذين في ايديهم الإصلاح والإفساد، منبهاً المواطن من هؤلاء الكتّاب الذين يجب عليك ان تسيء ظنك بهم لأنهم لا يتكلمون إلا في سبيل إضلالك وإفسادك». وفي توصيفه للعالم الديني يحدد الشيخ صادق صفات العالم الديني فيقول: «وإذا أردنا ان نتوسع بالتعريف فلا نرى في هذا المقام عالماً غير الذي يقرأ ليفهم ويدرس ليعلم. من كانت هذه صفته العلمية فلا يصدق إلا بما ينطبق على قواعد العقل».