هل البشر متساوون في معيشهم، أم أن أقدارهم تلغي المساواة وتملي فروقاً فادحة، وما معنى الرواية في شرط اجتماعي موروث، يبدأ بالنقص وينتهي به؟ يخالط السؤالين عبث صريح، لأن مساواة البشر فرضية سعيدة لا تتحقّق، مثلما أن الرواية حديث كوني، يعترف بجوهر الإنسان ويدع ظلال الجغرافيا جانباً. طرح الروائي السوداني أمير تاج السر السؤالين، وعبث بهما عبثاً عاقلاً، مندّداً بما يلغي السوي ويحتفي بالعبث. استبقى أمير، في روايته الجديدة «صائد اليرقات» ( دار ثقافة - منشورات الاختلاف) مفهوم المساواة، المعروف لديه الذي يلوذ من خراب بآخر، ومكر السلطة - القوة، التي تصادر المخلوقات وتضع فيهم عطباً لا تحرر منه. إنه عالم النقص المكتمل الذي يعالجه سارد ناقص، يصل إلى منتصف الطريق ويقع، ذلك أن نقصه الكامل يردّه من بداية مريضة إلى بداية نظيرة أخرى. ولهذا تستهل الرواية بجملة توكيدية: «سأكتب رواية ، نعم سأكتب»، تعبيراً عن إرادة فردية حازمة، وتنتهي بجملة متلكئة عن رواية لن ترى النور. لأن «اليرقة» التي ينتظرها طور يكملها تظل، في شروط الخراب «يرقة»، حال رواية جمعت عناصرها وسقطت في الماء. ولعل ما يبدأ، ويبقى مراوحاً في بداية عاجزة، هو الذي استدعى «مجتمع الفقر»، الذي تدور الرواية فيه، إذ كل شيء يشبه صورته ولا يطابقها، كما لو كان «الشبه» بديلاً مطلقاً عن التطابق. فلا المقهى هو المقهى، فهو عامر بأشباه البشر والعفوش والروائح الثقيلة، ولا الروائي روائي، يدخل إلى جُحر ويخرج إلى متاهة، ولا صاحب المكتبة يعرف لغة الكتب... «مجتمع الفقر» ، يطرد الأشكال أو تطرده الأشكال، ويستبقي الهوامش والظلال و«كُسيرات من البشر»، لكنه يستبقي سلطة ترصد أنفاس البشر وتعيد إنتاج السديم بلا اقتصاد. يبدو المجتمع السديمي، الذي يشبه المجتمع العادي وينفصل عنه، مادة خاماً يعالجها خطاب روائي مهجوس بالقمع والتحرر، غير أن هذا المجتمع، الذي يعطّل الزمن ويجافي النمو والتطوّر، يطرح على الروائي والكتابة الروائية سؤالين: إذا كانت الكتابة الروائية شكلاً تتصالح فيه تناقضات كثيرة، فكيف يمكن لمجتمع يفتقر إلى الشكل أن يعثر على شكل روائي ؟ حوّل أمير تاج السر موضوعه الروائي، وباقتدار كبير، إلى سؤال روائي، أو إلى سؤال يتاخم نظرية الرواية. وللجواب بواباته المحتملة: لا رواية لمجتمع سديمي ينقض الأشكال، أو أن له رواية معوّقة خاصة به، أشبه ب «اليرقة»، التي يعالجها الموت قبل أن تكتمل، أو أن له «عالم الفنتازيا»، الذي قانونه الذهبي العبث بكل القوانين. لن يكون «الراوي الفنتازي»، المهجوس برواية مستحيلة، أو براوية هي صورة عن معيشه، إلا كياناً منقسماً، يحاول بناء الشكل في مجتمع تستعصي عليه الأشكال. ولهذا يصدّر الروائي السوداني عمله بمقطع إسباني يقول: «انزل إلى الشارع في بطء، وابحثْ عن الآخرين، هنا تجد الجميع، وأنت بينهم». تعبّر الجملة الأخير عن مأساة الروائي، الذي يريد أن يضع مجتمعاً لا شكل له (مجتمعاً أفريقياً يطل على النيل) في شكل روائي، منتهياً إلى «الفنتازيا»، بلغة أدبية، أو إلى «الرعب»، بلغة عارية بعيدة من الأقنعة. أقام الروائي السوداني أمير تاج السر «روايته الفنتازية»، التي تنفذ إلى قرار المأساة وتعبث به، على مفهوم : المفارقة، الذي يوحّد بين الموضوع ونقيضه، ويدفع بالموضوع المتناقض إلى الموت والشلل. أما الحركة المتناقضة التي تجمع بين الكساح وشهوة السير الطليق فمتابعة بالكوميديا والمأساة معاً، وبرعب مخادع يسفر عن وجهه ولا يسفر عنه تماماً. رسمت رواية «صائد اليرقات» المفارقة بنسق من الشخصيات المعطوبة بالضرورة: المخبر العتيد المتقاعد الذي رغب في أن يكتب رواية، بعد أن فقد ساقه في مهمة أمنية «جليلة»، واستعاض عنها بساق خشبية «بذيئة»، تتيح له الاختلاف على مقاهي المثقفين والكتاب الذين كانوا، قبل التقاعد، «هدفاً أمنياً ثميناً». وهناك «عاشق المسرح السخيف»، الذي يقنعه دور «الكومبارس» الموطّد بإعلان مصطنع بذيء، يجعله نجماً تليفزيونياً من نجوم الإعلان، كما لو كانت الدعاية التلفزيونية ل «المشروبات الغازية» تجسيداً للمسرح ومرآة للفن الحقيقي. ويأتي ثالثاً حفار القبور، الذي أتاح له تشجعيه للرياضة الحصول على أكثر من وسام، إلى أن ينتهي مجهولاً في مستشفى فقير. تحمل الشخصيات الأساسية الثلاث، كما شخصيات أخرى، إعاقة داخلية، تثير السخرية، في مستوى منها، حاجبة الفراغ بفراغ أكبر، وتفصح عن المأساة في مستوى آخر، فهي تحلم وتعجز عن تحقيق ما تحلم به، مقيدة إلى عجز، لا يمكن التحرر منه. المخبر والرواية ومع أن حفار القبور، الذي حفر قبره قبل أن يموت، ينتهي مجهولاً بلا «أوسمة»، تاركاً وراءه مسرحياً زائفاً ومخبراً لن يكتب رواية، فإن في مصيره، وهو الإنسان - النكرة، ما يعلن عن مصائر الشخصيات الأخرى، التي تأتي من الفراغ وتتبدّد في الغبار. تعود، في هذه الحدود، جملة الاستهلال: «انزل إلى الشارع في بطء، تجد الجميع وأنتَ بينهم». ليس الجميع إلا هوامش بشرية، لا تعرف مجتمع الرواية ولا يعرفها مجتمع الرواية، فتكتفي برواية مغايرة تشبه الرواية، أو برواية فنتازية، أقرب إلى «ارتجال محسوب»، يصرّح برعب ثقيل الطبقات. تتوق كل شخصية نكرة، في المجتمع المقموع، إلى اعتراف الآخرين بها، متوسلة قناعاً خارجياً يشدّ الانتباه إلى وجهها الممسوح، الذي هو ترجمة لقناع آخر موروث. وبسبب رغبة المقموع بوجه يتعرّف به: يريد المخبر أن يصبح روائياً، و«المدلّك» نجماً مسرحياً، وحفّار القبور زميلاً للرياضيين. ومع أن في المفارقة التي تخترق الشخصيات جميعاً، ما يعلن عن انفصال كل إنسان عن ذاته، وانفصاله عن غيره تالياً، فإن فيها ما يهمس بالتضامن أيضاً، ذلك أن من يبحث عن اعتراف الآخرين به يعترف، ضمناً، بهؤلاء الذين يودّ أن يعترفوا به. تصبح المفارقة ، بهذا المعنى، أداة فنية ومنظوراً للعالم في آن: ترسم شخصيات تنوس بين الاغتراب والتحقق المستحيل، وتهجو مجتمعاً يقتات بنقصان مفتوح. كثّف أمير تاج السر منظوره، وكما يفعل كل روائي نبيه، بشخصية - أساس يمثّلها سارد ناقص يدعى: عبد الله حرفش، أوعبد الله فرفور، الذي يجمع اسمه بين العبودية والسخرية. يتكشّف مساره الساخر في انتقاله من «مخبر» يكتب التقارير عن المثقفين إلى «مثقف طارئ»، يختلط بالمثقفين وينتظر بدوره مخبراً مكيناً يكتب عنه تقريراً. غير أن وضعه الساخر، أي المأسوي، يستظهر في ساقه الخشبية «البذيئة»، التي حرمته من قدرة المطاردة التي كان يتمتع بها. ولذلك يبدأ ناقصاً وينتهي ناقصاً، يدخل إلى عالم المثقفين وقد خسر جزءاً من ذاته، ويخرج من عالمهم وقد خسر جزءاً آخر، فمسؤوله الأمني القديم يطلب منه استئناف مهنته القديمة، لأنه أصبح عارفاً بقضايا المثقفين وخطرهم الأكيد على «أمن الوطن». فمن المفترض أن يفضي به «فضوله الروائي» إلى كتابة رواية، قبل أن يتحوّل إلى روائي - يرقة، أنجز رواية - يرقة، ذلك أنه إنسان - يرقة، تختار له السلطة المهنة التي تريد. إنسان لا قوام له، وضعت السلطة فوق وجهه قناعاً، وبترت غاياتها ساقه، وحوّلت أغراضها مساره، كما لو كانت حقيقة وجوده من حقيقة السلطة، التي تقذف به من مدار إلى آخر. إنه البؤس الاستثنائي الذي لا يُحاكى. ولهذا يبني «طموحه الروائي» على محاكاة حزينة، مشيراً إلى رواية كتبها «إسكافي فقير في رواندا» وأخرى كتبتها « بائعة هوى تائبة في سايغون»، وثالثة وضعها «بائع ورد بنغالي في مدينة نيس الفرنسية»، قبل أن يعرف أن مجتمعه السديمي الناطق بالعربية، يرمي به إلى خارج أشكال البؤس جميعاً. تتحدث المفارقة، كما مارسها أمير تاج السر، عن إنسان يريد أن يتعرّف على ذاته، أن يكتشف هويته ويرى إمكاناته، دون أن يصل إلى ما يريد، لأنه مصادر بثبات السلطة، أو سلطة الثبات. ولذلك تغيب الأسماء، وهي حق الإنسان الوحيد، وتطفو الألقاب: صاحب المقهى، حفّار القبور، المدلّك، المسيحي (ر.م) صاحب مكتبة (أعلاف)، الزميل (4 . ب) والروائي المعروف الذي له وجه يشبه الناقة. هناك «آخر» بلا اسم و «أنا» بلا اسم أيضاً، ذلك أن الحق في الاسم، في بلاد «صناعة التقارير الأمنية» لا وجود له. وإذا كان «الآخر» لا وجود له إلا ب «آخر» يبادله الحوار، فإن السلطة المطلقة، التي لا تحتاج إلى آخر، تختصر البشر جميعاً إلى «المخبر» و«هدفه الأمني» و «السجن»، الذي يصيّر شعارات المثقفين إلى صمت ذليل. ولهذا تصبح الكتب، كما تقول الرواية، «بيوضاً فاسدة»، يؤمّن إتلافها نظافة المجتمع و «المواطنين»، لذا يقول المخبر «ما وقفت أمام مكتبة من قبل إلا حين يدخلها مشبوه ملاحق من أجهزتنا، أو تتحدث التقارير عن كتب ممنوعة تدخل البلاد خفية.» . وإذا كان في صيغ النظافة، التي تقترحها السلطة، الغائبة الحاضرة، ما يثير الضحك المختنق، فإن الضحك يتحوّل إلى قهقهة مجلجلة، حين يكون على المخبر - المثقف أن يشي بنفسه، بعد أن دخل عالم المثقفين، وأن يستعيد قناعه القديم، الذي لم يفلح في التحرّر منه على أية حال. وصف أمير تاج السر، في روايته «صائد اليرقات»، عالم الأرواح البائسة، وأطلقها في فضاء مؤثث بالبؤس، يسرد تلك العلاقة الشهيرة بين بؤس الوعي وبؤس المعيش. ابتعد الروائي، وهو يسرد البؤس في شكليه، عن المباشرة أو ما يشبهها مكتفياً بنبرة هامسة وباقتصاد لغوي مدهش، مفسحاً المجال لنعوت وصفات تمر بلا ضجيج: الهزيل، المتخبّط ، الأغبر، الخليع، الشاحب، و«حافلات النقل الممتلئة بالفقر والبشر»، ... انتهى إلى أسلوب يذيب البؤس في الهواء ويراكمه فوق القلوب والأفئدة»، ويوطّد بسخرية باردة، تجعل من الأسى وجهاً عادياً من وجوه الحياة، كما لو كان امتداداً لمقاعد مخلّعة وأزقة ضيقة و «أثيوبيات محطّمات»، يحملن مظهراً نظيفاً في فضاء هجرته النظافة. عالج أمير تاج السر، في «توترات القبطي» موضوعاً سياسياً، قوامه الطائفية القاتلة، وحذف المكان ولم يحذفه: حذفه مشيراً إلى النيل والشمال الشرقي الأفريقي، ولم يحذفه لأن أشباح الطائفية منتشرة في كل مكان. آثر هذا الروائي النبيه، في روايته «صائد اليرقات»، أن يدخل إلى السياسة متوسلاً السخرية السوداء، أو «فن الهجاء» كما يقال بلغة ناقصة. قام بحذف المكان من جديد، من دون أن يحذفه تماماً، مبرهناً أن السخرية كتابة مقاتلة، تحتج على ما يضع البشر خارج أرواحهم، وعلى ما يبتذل اللغة ويجعلها نافلة، فلا يمكن معالجة اللامعقول بلغة معقولة، لأن للأرواح الكسيرة لغة لا يعرفها أحد. ولهذا يصبح وجه الروائي، في تصور المخبر، مساوياً لوجه الناقة، ويغدو صاحب المقهى «المضحّي والمضحى به» في آن، ويعادل المخبر- الروائي بائعة هوى تائبة.