هناك لقاءات ثقافية لا تنال منها السنون بتجاعيدها، ولا بما يعترض سلاسة سيرها من مثبطات وعوائق مادية. لسبب بسيط هو اعتناق أصحابها لما هو ثقافي كهدف ومحفز قبل كل شيء. وما هذا المهرجان التطواني المتوسطي سوى دليل طيب على ذلك. هنا وفاء للفكرة القائلة أن الثقافة والفن هما ما يقود الشعوب، وليس ما هو مادي فقط لأن هذا يظل تابعاً للفكري في كل الأحوال. وربما يرجع الفضل في ذلك لطبيعة هذه المدينة العريقة التي تتنسم كلّ ما هو ثقافي في كل مناحي معمارها وجغرافيتها وتاريخها المضمخة بما هو أمازيغي وعربي وأندلسي. وهذا ما تَمثله مؤسسو وأعضاء جمعية أصدقاء السينما بتطوان منذ عقود ثلاثة سينمائياً منذ كانوا منشطي نادي سينمائي إلى أن صاروا أفراداً مسيّرين في جمعية مهرجان بكل ما للكلمة من معنى كمؤسسة قائمة بذاتها. كما أن تاريخ المهرجان عبر دوراته السالفة وعبر الرصيد الجماهيري الذي اكتسبه كما عبر أصدقائه من سينمائيين ومثقفين ونقاد وكتاب وفنانين ونخبة من المغرب ومن الخارج، كل هذا يشكل عاملاً حاسماً ومشجعاً في استمراره. فرصة أخرى والدورة الحالية فرصة أخرى للاستمرار في نشر الثقافة وقيم الإبداع عبر الفيلم والنقاش الجاد والرصين عن الفن السابع. في محيط مخصوص جداً منه انطلقت الحضارات والأديان والميثولوجيات التي تؤسس الإنسان، أي من دول البحر الأبيض المتوسط من لبنان حتى المغرب. جنوباً وشمالاً. ولقد تم التأكيد على هذا المعطى خلال حفل الافتتاح الناجح بكل المقاييس. تنظيماً وفقرات وحضوراً نوعياً. حدث هذا في قاعة سينما اسبانيول الباذخة بمعمارها التاريخي المميز كفضاء تحلق في أجوائه روح الفن السامية التي تستدعي الانخراط فيها مباشرة. وهو ما حصل حين تم تكريم أحد أعمدة الغناء المغربي والعربي، عبد الوهاب الدكالي. هذا الأنيق الذي لم تنل منه السنون ولا يزال يتنفس فناً وألقاً هو بطل أول فيلم مغربي مطول "الحياة كفاح" عام 1968، بالتالي هو عنصر مؤسس للصورة السينمائية المغربية، وساهم في الموسيقى التصويرية لأفلام أخرى. ومشاهدته هنا كانت بطعم الذكرى والتذكير بأن الفن الأصيل هو الذي ينتصر دوماً ولا يزول. في ذات الفقرة التكريمية تم الاعتراف الفني من لدن المهرجان بما قدمه الممثل المصري المعروف خالد الصاوي الذي ذكر في كلمته أن السينما في المغرب مكسب عربي للعرب يجب أن يهتموا به. كما تم تكريم ممثلة مغربية موهوبة بما راكمته من تجربة أدوار جميلة في المسرح والتلفزيون والسينما هي السعدية لاديب. إضافة إلى الاعتراف التكريمي الذي خصص للممثل المعروف محمد خيي والممثلة الإسبانية آنا فرنانديز. برمجة متنوعة وجرياً على عادة هذا المهرجان المكتسبة، تمت برمجة عروض فيلمية من عيار فني رصين تضم اثني عشر شريطاً طويلاً من البوسنة والهرسك وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا ولبنان وتونس واليونان وبلغاريا وتركيا ومصر والمغرب مع مشاركة دول أخرى في إنتاج هذه الأفلام ما يرسم مشاركة واسعة لكل الجغرافيا المتوسطية بمكوناتها العربية والأوروبية في تكامل محمود. وهو التكامل الذي يتجسد في نوعية المواضيع التي تتطرق إليها والمتعلقة بالهجرة واللاجئين والعائلة وحضور الألم والمعاناة والعلاقات المعقدة الناتجة من التجاهل والإهمال والقمع، كل ذلك مع تناول إنساني وسينمائي في ذات الوقت. فجلّ الأفلام حظيت بالمشاركة في أبرز المهرجانات العالمية ونالت جوائز قيمة، وبعضها يعرض في سابقة بتطوان. وهذه الملاحظة الأخيرة تطبق أيضاً على أعمال فقرة الشريط الوثائقي. وهو ما يؤكد قيمة المهرجان والثقة الموضوعة فيه من طرف المخرجين والمنتجين المتوسطيين. أفلام يقرر جوائزها ثلة من الأعضاء في ثلاث لجان تحكيم، للفيلم المتخيل، للفيلم الوثائقي، ثم جائزة النقد التي تحمل اسم الناقد والقاص مصطفى المسناوي في اعتراف بإسهاماته الفكرية والنقدية. وبموازاة العروض السينمائية التي تقام أنشطتها الرسمية بقاعة سينما أفينيدا الجميلة، تمت برمجة ندوتين هامتين. الأولى نوعية وخصصت للعمل الفيلمي المطول الأول بالمغرب الذي يخضع لمسيرة تشجيعية خاصة. الشيء الذي يمكن صاحبه من المطالبة بالدعم العمومي وممارسة الإخراج. لكن السؤال المطروح يبقى متعلقاً بمدى استجابته لمعايير الجودة والتجديد، ومدى نجاعة هذا الإجراء في الإبداع الفيلمي الفني الحقيقي، في ظل تكاثر عدد المخرجين وازدياد عدد الأفلام كل سنة. والندوات الثانية لها صبغة متوسطية وتتعلق بمسألة الحدود في السينما المتوسطية عبر محاور تتناول مسألة الهجرة والنزاعات الحدودية وغيرها من المواضيع المرتبطة بقضية شائكة كهذه. وقد دعي لها ثلة من الأساتذة والشخصيات المتخصصة. هي إذن انخراطات قوية وفي الصميم في ما يتعلق بالسينما المعبرة وسؤال الإنسان في صراعه مع الوجود الكريم والعادل والمحقق للذات الفردية والجمعية. في ذات الإطار المؤسس للسينما ذات البعد الهادف، خصص المهرجان للجانب التربوي التعليمي حيزاً هاماً. وذلك من خلال الورشات المختلفة والدروس السينمائية في العديد من مناحي الصناعة السينمائية. وهي تؤطر من طرف أساتذة متخصصين وسينمائيين يوجهون طلبة، مما يضمن مستقبلاً سينمائياً متجدداً. ويندرج الأمر في خانة الثقافة السينمائية التي تشكل إحدى دعامات اللقاء. مهرجان تطوان موعد سنوي قار للثقافة السينمائية في تعالقها مع القضايا الإنسانية والأجناس التعبيرية الأخرى كالكتابة.