العدد الجديد من فصلية «إبداع» التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب حمل معه مختارات لقصيدة النثر ضمها كتاب مستقل عنوانه «صيد وحيد»، لكن هيئة التحرير التي كلفت الشاعر البهاء حسين بمهمة الاختيار والتقديم لم تعجبها النتائج التي انتهى إليها، على ما يبدو، فقررت الانتقام منه ومن المختارات وأصحابها (19 شاعراً مصرياً). وعلى غير العادة تطوع للقيام بهذه المهمة نائب رئيس تحرير المجلة حسن طلب، وليس رئيس تحريرها أحمد عبدالمعطي حجازي، الذي دأب في السنوات الأخيرة على مهاجمة قصيدة النثر بمناسبة ومن دون مناسبة. يقول طلب إنه عرض فكرة المختارات على حجازي «فوافق عليها فوراً»، وأنه أشفق على البهاء حسين في أداء مهمته «التي قبلها بشجاعة كبيرة». لكن حسين الذي اختار 19 شاعراً فقط كان حذراً في مقدمته التي لم تزد عن ثلاث صفحات، ومن ثم فلم يقم بتصفية التيار الشعري الذي ينتمي إليه على نحو ما فعل عبدالمنعم رمضان مع محمود درويش، حين تم تكليفه بأنجاز مختارات له، ويبدو أن هذا كان مثار غضب طلب الذي شمر عن ساعديه ليقوم بنفسه بأداء المهمة، بادئاً بالبهاء حسين، ثم المختارات، ثم شعراء النثر عموماً الذين كثيراً ما رددوا أن المؤسسة الرسمية متعنتة تجاههم. لكن واقع الحال يقول إنها تنشر لهم في مجلاتها وسلاسلها وعينت لهم مندوباً في بيت الشعر، كما قال طلب في تصديره. بدا طلب وكأنه يعاني من ثقل غرقه في فيض المؤسسة ومنحها عليه، بدءاً من نشر أعماله مروراً بعمله كالظل الملاصق لحجازي في «إبداع» ولجنة الشعر، التابعة للمجلس الأعلى للثقافة، فقرر أن يضع الجميع في الموقف نفسه، وراح يعدد للبهاء حسين وغيره من الشعراء الذين تم استدراجهم إلى مختاراته، أفضال المؤسسة عليه وعليهم، بدءاً من النشر في «إبداع» وصولاً إلى التمثيل المخزي لشعراء النثر في «بيت الشعر» الذي أسس أخيراً في القاهرة. وإذا كانت قناعة طلب هي نفسها قناعة حجازي بالنسبة إلى قصيدة النثر، فما الذي دفعه لنشر تلك المختارات، ثم مهاجمة أصحابها ومن اختارهم؟ ولكن يبدو أن عدداً من شعراء قصيدة النثر فطنوا إلى ما يمكن وصفه بمذبحة طلب، ومن ثم رفضوا أن تضم المختارات قصائد لهم، وفي مقدمهم إيمان مرسال. المختارات تضمنت قصائد لكل من إبراهيم داوود، أحمد يماني، أسامة الدناصوري، أشرف يوسف، تامر فتحي، جيهان عمر، حسن خضر، زهرة يسري، عاطف عبدالعزيز، علاء خال، عماد أبو صالح، عماد فؤاد، فاطمة قنديل، فتحي عبدالسميع، كريم عبدالسلام، محمد خير، محمود خير الله، محمود قرني، ميلاد زكريا. هاجس الوزن ينتقد حسن طلب في التصدير الشاعر البهاء حسين لأن تقديمه للمختارات لم يتعرض إلى الكتابة عن مشكلة الوزن والموسيقى في قصيدة النثر، ولم يفرز الشعراء الحقيقيين عن غير الموهوبين، «هؤلاء الذين لا موهبة لهم إلا في فنون الدعاية والنفاق واقتناص الفرص واغتنام المكاسب باسم الشعر». وهي الجملة التي يمكننا اعتبارها إدانة موجهة لكل من شاركوا بقصائدهم في المختارات، لأنهم على رغم إدعائهم أن «المؤسسة» تناصبهم العداء فإنهم ما لبثوا أن اغتنموا الفرصة وحسبوا المكاسب موافقين على المشاركة، لكن البهاء حسين خالف الوصايا ولم يكتب إلا عن حيرته في الاختيار والأسس التي اعتمدها وسبب تسمية عمله ب «صيد وحيد». تنم اللغة التي كتب بها طلب عن ذائقة تعود بنا إلى مقامات بديع الزمان الهمذاني، وكأن صاحبها لم يفارق تلك اللحظة سواء في تصوره للشعر المبني على تفعيلة الخليل أو النثر المرصع بالبديع والمحسنات، فجاء تعريفه للشعر بأنه «فن موسيقي بقدر ما هو فن لغوي، وليس من بديل أعرفه حتى الآن يمكن أن تتحقق به موسيقية الشعر على النحو الأمثل غير التفعيلة الخليلية». أما رغبته في إرضاء رؤسائه فتجلت في إعلانه أنه أقرب إلى صراحة حجازي وأبعد ما يكون عن تقية محمود درويش الذي لم يصرح برأيه السلبي في قصيدة النثر. وفضلاً عن دفاعه عن «المؤسسة» وأدائها تجاه شعراء النثر وكأنه صاحب توكيلها الرسمي، اتخذ من خلافاته الوهمية مع البهاء حسين مطية لإهانته من جانب، والتعريض بتيار النثر عبر قبول محمود قرني وضع يده في يد حجازي ليكون ممثلاً لهم في «بيت الشعر»، معدداً منن وزارة الثقافة التي يلقيها ذلك «البيت» عليهم وجحودهم بهذه المنن. ذهب طلب إلى أن البهاء حسين بذل مجهوداً في الفراغ لأن الجيد بين القصائد التي اختارها لا يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة. ما لم يرد طلب أن يعترف به في تصديره المهين له قبل أن يكون مهيناً للبهاء حسين وللشعر عموماً أن مجرد وجوده هو وحجازي على رأس هيئة تحرير دورية تصدرها أكبر دار نشر حكومية في مصر والعالم العربي، وبهذا المفهوم الضيق للشعر الذي كثيراً ما صرحا به - ليس إلا تعبيراً عن كراهية المؤسسة الرسمية للشعر والشعراء، إذ إن الدكتاتورية التي تمتعت بها آراؤهما لا يمكنها أن تمنح حق الوجود لأحد. ومن ثم فحين أرادا أن يكونا ديموقراطيين بدوا كالغراب الذي أراد أن يمشي مستقيماً فلم يعرف، وأراد أن يعود إلى مشيته الأصلية فلم يعرف أيضاً. ويبدو أن الصيد الوحيد الذي ليس في جوف الفراغ وفق التعبير الذي استخدمه صاحب التصدير هو مجموعة الشعراء الذين لم يحالفهم «الحظ» بالانضمام إلى منحة «إبداع» الملغومة.