أخبرتني صديقتي أنّ الكتاب لفظ أنفاسه الأخيرة واتكل. فاقتنعت وترحّمت واسترحت منه ومن نقاش معها من دون جدال أو تحليل أو تفصيل. فكل نقاشاتنا تؤدي بنا إلى شفير هاوية الصداقة وأنا مصممة على الاحتفاظ بصداقاتي ولو بنفاقي. وهكذا تعلّمت ألا أُناقش ولا أُحاور مختارة صديقاتي على نقّاشاتي. لكنها لم تسكت وأكملت واسترسلت ثم طمأنتني قبل أن أتهمها بالتفاهة، وما الجديد كلٌ يرى في العالم العربي الآخرَ تافهاً، قالت إنّ الثقافة لم تمت، ولم تتأثر بالمد البحري أو البرّي وتسونامي الفكر. كل ما في الأمر أنّ صديقتي حوّلت مصادرها من الكتب إلى شاشة التليفزيون. وبدلاً من جهد يبذله المرء وعذاب يكابده في النهوض والمغادرة وتأبط كتاب ومن دون أن يُكابد بلّ سبابته لقلب الصفحات وهو يقرأ، بدلاً عن العذاب، يمسك بالريموت كنترول ويكبس بطرف أصبعه أحد الأزرار الصغيرة، وتبدأ شلالات الثقافة والمعرفة في الانحدار على أودية الروح. وأقنعتني. في المقابل قلت في نفسي ولِمَ الكتاب وعذاب البحث عنه في مكتباتنا التي تضج وتعج فقط بكتب الطبخ وتنسيق الزهور وحتى هذه لا نستفيد منها، فنحن لا نطبخ ولا ننسق ولا نخيط. لما هذه الكتب إذاً؟ والتليفزيون أهو سهل وجميل ومريح وحضاري. فلِمَ لا أتنعّم به وأعيشه حتى آخر قطرة وآخر نفَس؟! وهذا ما حصل. هيأت نفسي مساء أحد الأيام لوليمة فكرية عامرة. واتخذت الاحتياطات كافّة ولزمت الحذر واستلقيت على الأريكة المواجهة للشاشة الصغيرة. ورحت أنتظر. فماذا كانت الحصيلة؟ هل أُخبركم وأعكِّر صفوكم وأمسح ابتسامتكم التي ارتسمت بصعوبة؟ هل أُلبِّد أجواءكم بغيوم الكتابة أم أسكت وأعضّ على جرحي؟ أم أنكم مثلي عشتم التجربة بحذافيرها وأظافرها إذا جاز التعبير!! دعوني أُثرثر قليلاً، لعلني أكون لسان حالكم. وليمة الفكر كانت سيلاً من أخبار المآسي والكوارث: طبيعية وبشرية. قتلى وجرحى ومفقودين ونساء وشباب ومسنين. انفجارات واغتيالات وسيارات مفخخة وطائرات مفحمة. أزمات اقتصادية تتهدد بأفواهها المفتوحة تفاحة الأرض الشهية. أزمات سياسية. حفر مموّجة. تلاسن بل تشابك بالألسن والأنياب. وجوه كالحة وابتسامات صفراء وصراخ بل وعواء. مقابلات وفضائح وأُمور شخصية لا تعني أحداً. عروض رخيصة للأجساد. مواء.. مواء وكأنّ عرساً للهررة يُعقد. لم يُدهشني ما آلت إليه الحال. ولم أُعجب ولم أفغر فاهي للغزو الإعلامي الخطر. ما أخرجني من نفسي هو ذلك الارتقاء والتوفيق في اختيار أبشع الوجوه البشرية لوضعها علينا. لم يحصل أي خطأ أو تسلل لوجه أنيس جميل يُعيد السكينة ولو للحظات. ولم يحدث ولا عطل فني واحد ليقطع بث إحدى الأقنية. أُتخِمت حقاً. أقفلت الجهاز. حاولت النوم. هرب النوم وأنا أُريد أن أرحل إلى أي جهة مجهولة. أي جهة مجهولة... خلف الزاوية هل ترضى مثلي يا حبيبي بالقليل؟ أم أنت تبحث في هروبك عن بديل. أحسست منذ لقائنا بشقائنا، وبأنني أسعى لحب مستحيل. [email protected]