أمام مركازه الخشبي المعتق، المنصوب بجوار أحد محاله الذي تفوح منه رائحة السمن البري الأصيل ويتذوق فيه مرتادوه طعم العسل الطبيعي، تبحر الذكريات بالعم هاشم إبراهيم الشيحة في عالم البدايات المعطرة بأهواء حارات المدينةالمنورة التي تهب عليه بعبق ما كانت تصنع يداه من أطايب الحلويات البلدية التي اشتهرت بها طيبة الطيبة.وبصوت دافئ، يصف شيحه من أمام أحد محاله الشهيرة الذي لا يزال يقاوم عصف الحضارة وعصر «الشوكولاتة» و«الجاتوه»، عظمة ما ارتبط بوجدانه في المدينةالمنورة، وقال ل«الحياة»: «كل شيء هنا جميل، فالكلمة حلوة، والابتسامة كذلك، كما أن حلوياتنا الشعبية التي تنطق بلسان السكر والعسلية هي أحلى من الحلو نفسه». ويوضح «صاحب المحال العتيقة» أن «حلوياته» مغلفة بقصص وحكايات ذات ارتباط مباشر بالفرح، إذ إن لها شعبية كبيرة وليس لها منافس في السوق، مضيفاً «في تلك الحلويات رائحة الحارات القديمة بما فيها من قصص العشق الوجداني الذي نسج خيوطه أبناء الزمن الجميل لتبادل الفرح والمسرات بينهم». ولم يخف الشيحة إضطراره مسايرة متطلبات العصر وروح التطور إذ أصبحت محاله تصنع أنواعاً جديدة من الحلوى منها التمرية والغريبة والمنفوش بعد أن كانت قاصرة حتى عهد قريب على «اللبنية» و«الهريسة» و«دود البنات» وحلوى «النهرجين»، و«المشبك»، لاقت استحساناً وإقبالاً من جميع الأعمار. وعطفاً على المثل الشعبي المعروف، «قديمك نديمك لو الجديد أغناك»، أكد أن ظهور أنواع مختلفة حديثة من الحلوى والشوكولاتة التي تباع بأسعار خيالية لم يحجم إقبال الناس علي الشعبية القديمة، وقال مبتسماً: «على رغم أن حلوياتنا توصف بأنها بلدي أو قديمة إلا أن الطلب عليها لا يزال كبيراً، والرغبة في اقتنائها لم يقتصر على المدينةالمنورة فحسب بل حتى من خارجها إذ إنها تطلب في كثير من حفلات المناسبات التي لكل واحدة منها حلوى تعبر عنها، ما يفسر تداخل العلاقة بين الحلويات والمناسبات الاجتماعية، فالمشبك المصنوع من القمح والسكر كان يوزع على الحاضرين في مناسبات الأعراس وفي المواسم المختلفة». وعد الشيحة اشتهار المدينةالمنورة بهذا النوع من الحلوى انعكاساً للتنوع الثقافي والعرقي للمنطقة، وزاد: «لم تكتف قوافل الحجيج بنقلهم إلى مدينة المصطفى، بل كانت تحمل معها العادات والتقاليد التي تأثر بها أهالي المدينة بما فيها عادات الطعام ونوعه التي كان جزء كبير منها متعلقاً بصناعة الحلويات». وما يفسر بقاء الحلويات الشعبية حية في ذاكرة أهالي المدينة إلى اليوم، هو حضورها على موائدهم في الوجبات الثلاث اليومية، فلا تخلو سفرة إفطار إلا وكانت الحلاوة «الطحينية» أو حلاوة «الششني» حاضرة، في ما احتفظت سفرة العشاء بتسجيل الحضور اليومي لحلاوة «اللدو» و«اللبنية» إلى جانب «الهريسة» التي يحرص الكثير على شرائها بجانب خبز الشريك المصنوع من الحمص أو الكعك الفتوت والحلاوة الطحينية التي تصنع من السمسم أو حلاوة الشعر كما يحلو للبعض أن يسميها نسبة إلى الطريقة التي يتم بها تصنيع هذه الحلوى. وعلى رغم عدم صناعة حلوى «طبطاب الجنة» (وهي نوع من الحلوى المصنوعة من السكر المحروق بالطحينة تزينها المكسرات الموضوعة في شكل هندسي)، إلا أنها تبقى صنفاً يرغبه الحجيج ويتسابقون في الإقبال عليه لارتباط اسمها ب«الجنة» وتختزنها ذكرى أيام وليال افترشوا فيها «طبطاب» البلد الطيب. وعن طريقة صنع أنواع من الحلويات، يصف الشيحة طريقة عمل الحلاوة الطحينية من طريق ماكينة «المكت» اليدوية التي تسحب من خلالها الحلاوة على شكل جدايل وخصل ولذلك سميت «حلاوة الشعر»، موضحاً أن الحلوى تعتمد في صناعتها على مواد أساسية عدة أهمها السكر والحليب والسمن البلدي الخالص، ولا تحتمل فترة تخزين طويلة لأنها خالية من المواد الحافظة لذلك يفضل أكلها يومياً. وفي الوقت الذي ارتبط مسمى الحلوى بالصغار، استطاعت الحلويات الشعبية أن تخرج من إطار التسالي لكي تكون ضمن طقوس «بوفيه» الأفراح والمناسبات السعيدة من خلال ركن «التعتيمة». ولم تكتف الحلويات الشعبية بركن الذكريات في حفلات الزفاف، بل ذهبت لتؤكد حضورها في طاولات قصور الأفراح كبديل ل«الشوكولاتة» الفاخرة وتحتلها عن طيب خاطر. واعتبر الشيحة أن رخص ثمن الحلوى البلدية التي لا يتجاوز سعر الكيلو جرام منها ال30 ريالاً فقط أسهم في زيادة الطلب عليها بدلاً من الشوكولاتة والحلويات الفاخرة المستوردة والباهظة الثمن، لافتاً إلى أن انتشار محال «الكوفي شوب» التي تقدم قهوتها مصحوبة بطبق من الحلويات الأوروبية كاملة الدسم لم يغن «المدينيين» خصوصاً والسعوديين عموماً عن الحلويات الشعبية كونها تعتمد في طريقة صنعها على قيمة غذائية كبيرة وتاريخ وأصالة أهل البلد. وأبان أن الحضور القوي للحلويات الشعبية شكل بداية لتأسيس صناعتها التي برع فيها كثيرون عملوا على ترسيخ أسمائهم في تاريخ «صنعة الحلوانية» وكأنها علامات مسجلة يحرص كثير من الناس على شراء منتجاتهم من دون غيرهم. وعلى عتبات الأحياء القديمة المتجاورة، تتذكر السيدة عابدة (في العقد الخامس من العمر) كيف كانت الفتيات تصطف في انتظار «حجي طرغل» بقبعته التي تعلوها صينية مملوءة بالحلوى الملونة، وقالت ل«الحياة» واصفة ذلك المنظر: «كنا نتدافع نحو باب الشارع في سباق محموم إذا ما رأينا «حجي طرغل» أو سمعنا صوت «زمارته» (صافرة) لنشتري حلوى الباستا والمسكة وحلاوة شمسة، وهي حلويات مصنوعة من السكر والطحين ملونة بألوان طبيعية، وكل ذلك لا يكلفنا سوى بضعة قروش». وتضيف عابدة: «كان الحجاج قديما يقبلون على شراء الحلويات من محال السوق الصغير في المدينةالمنورة كنوع من البركة، وهدية للأهل والأحباب عند عودتهم من الحج». وتظل تلك الحلويات على تنوع أشكالها وألوانها والمعجونة بماء زمزم هدية الحجاج والمعتمرين وقوافل الحجيج التي تمر بأرض الحرمين.