قبل يومين من الانتخابات النيابية الأخيرة في مصر، فوجئ المهتمون بشؤون الحرية الإلكترونية، بقرار قضى بوقف مُدوّن رقمي بدعوى أن كتاباته كشفت أسراراً عسكرية وأمنية. وبصرف النظر عن تفاصيل هذا الاتهام، الذي يذكّر بأزمنة ظنّ المصريون أنها صارت خلف ظهورهم، فإن الحراك السياسي القوي الذي رافق هذه الانتخابات، أعطى لهذه القضية أصداء واسعة. وزاد في اهتمام المدافعين عن الحريات الإلكترونية أنها جاءت بعد أيام قليلة على خروج المُدوّن الإلكتروني كريم عامر من السجن. ويعتبر عامر المُدوّن الأشهر مصرياً وعربياً، لأنه أول من نال عقوبة سجن عاملت نشاطه الافتراضي باعتباره جناية فعلياً، وساهمت أراؤه المتشددة في الدين والسياسة في زيادة شهرته. فكيف يمكن النظر إلى قضيته راهناً، خصوصاً أنه ما زال عاقد العزم على مواصلة حراكه في الفضاء الافتراضي للإنترنت. اتفق بعضهم حوله أو اختلف الكل معه، فإن هذا الشاب «العنكبوتي» مرشح لأن يكون إحدى أبرز شخصيات عام 2010 على الشبكة الإلكترونية العنكبوتية، مصرياً وعربياً. لقد أثار المُدوّن الإلكتروني الشهير عامر كريم بجدارة الجدل واللغط قبل سجنه وخلال احتجازه. ويبدو أن مسلسل الإثارة مرشح للاستمرار بعد خروجه من وراء القضبان. المعلوم أن عبد الكريم نبيل (وهو اسمه الحقيقي) مثقف «شبه أزهري»، إذ لم يكمل دراسته في هذه المؤسسة الدينية العريقة. وأنهى أخيراً فترة عقوبة أولى من نوعها في مصر والدول العربية، إذ اتّهم رسمياً بمحاولة إثارة الفتن عبر الكتابة على الإنترنت. ويرى كثيرون أن تهمته فعلياً تتمثل في السير علنياً ضد التيار السائد أخلاقياً ودينياً واجتماعياً. تعددية الإنترنت وأحادية التلفزة «سأواصل كتاباتي ونشاطاتي ولن أتراجع عن تفكيري العلماني». بهذه الكلمات الثورية الدراماتيكية، استهل كريم عامر تصريحاته النارية في مؤتمر صحافي حافل نظّمته له «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان» احتفالاً بالإفراج عنه بعد أربع سنوات أمضاها في السجن. وأوضح عامر أنه عانى في السجن نقصاً حاداً في المعلومات واضمحلالاً شديداً في التعددية المعلوماتية، وهي أشياء أرسلته الى وراء القضبان. وشرح أن الصحف القومية الحكومية تقدّم حصرياً للمساجين، ما اعتبره خنقاً لمصادر المعلومات ووأداً للمعرفة المتعددة المصادر التي اعتادها أثناء ممارسته التدوين على الإنترنت. ولم تفقده سنوات السجن حسّ السخرية ونبرة التهكم المُرّ. فقد اعتبر اقتصار الإعلام التلفزيوني في السجن على قناتين رسميتين بمثابة «طقوس تعذيب»، وخصّ بالذكر برنامج «البيت بيتك»، الذي اعتبر مشاهدته تعذيباً بحق. المعلوم أن هذا البرنامج هو «توك شو»، غيّر عنوانه أخيراً إلى «مصر النهار ده». ويعطي كريم عامر نموذجاً مثالياً لدراسة مفهوم حرية التعبير في مجتمعات اعتادت طويلاً على تصنيف كثير من أشكال حرية التعبير تحت بند «العيب». كما يمكن اعتباره لحظة مهمة لإعادة النظر في مفهوم حرية التعبير أيضاً، بمعنى تجديد النقاش في الحرية ومدى إطلاقيتها، والتفكير في الحدود (إن وُجِدت) التي يمكن للكلمات والأفكار أن تتوقف عندها، والتأمل في الفارق بين مقارعة الآراء والتعرّض للمعتقدات. فمنذ انطلاقة مُدوّنته الرقمية في فضاء الإنترنت، ارتبط اسم كريم عامر مع الخوض في «تابو» الدين. وبدا الأمر مستفزاً للبعض، ومقيتاً للبعض الآخر. رحب كثيرون بهذا المنحى النقدي، سواء لمواءمته أفكارهم الشخصية، أم بدعوى حماستهم للحرية المطلقة في التعبير عن الرأي. والحق أن مسألة «تقييد» الحرية تحمل تناقضاً إشكالياً مريراً. وطالما اصطدم كثير من دعاة الليبرالية عربياً بهذا التناقض، خصوصاً عند محاولتهم اصطناع «منطقة وسطى» بين تحرّر أفكارهم وجمود الثقافة العربية، ربما كي يتلافوا التصادم المكشوف مع المجتمع وعاداته وموروثاته. «الحرية ... هي إزالة كل القيود عن كاهل الإنسان، والعبودية هي نقيضها، وتعني إخضاع الإنسان عبر فرض بعض القيود على حياته بدافع السيطرة عليه... وحيث وجدت القيود اختفت الحرية، وحيث وجدت الحرية سقطت القيود. هذه بديهة لا تحتاج إلى إثباتات عملياً». ظهرت هذه الكلمات وما يشبهها على مدوّنة عامر karam903.blogspot، ما أدى إلى اعتقاله للمرة الأولى من قبل جهاز أمن الدولة في 26 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2005. وحينها، احتجز لمدة 12 يوماً، وصودرت كتبه وكتاباته الشخصية. وفي بداية عام 2006، جرى فصل عامر من جامعة الأزهر، التي كان طالباً في كلية الشريعة والقانون فيها، وذلك بسبب نشره مقالات وآراء تهاجم مؤسسة الأزهر وشيخها، على مدونته ومواقع عنكبوتية أخرى. وفي 22 شباط (فبراير) 2007، حُكِم على كريم بالسجن أربع سنوات، بتهمة التحريض على الفتنة، والإساءة للمسلمين على شبكة الإنترنت عبر وصفه المسلمين الأوائل بأنهم «دمويون»، ما اعتبر «إخلالاً بالسلم الأهلي». وأُضيفت إلى ذلك، حينها، تهمة التعرض لمقام رئاسة الجمهورية بالكتابة عبر الانترنت. في منتصف آذار (مارس) من العام نفسه، جرى تأييد الحكم بالسجن لمدة أربع سنوات، من قِبل محكمة الاستئناف. كما اعتمد القاضي دعوى مدنية رفعها 11 محامياً، طلبوا فيها تغريم عامر بتهمة الإساءة إلى الإسلام. العودة إلى المدونة الرقمية ما الذي تغيّر في المُدوّن الإلكتروني عامر، بعد 4 سنوات من السجن؟ كيف ينظر إلى حريته حاضراً؟ هل في نيته الانكفاء مكتفياً بما أصابه من جراح؟ هل بقي هو المتمرد نفسه، أم أن شيئاً ما تغيّر عبر العيش خلف القضبان؟ ثمة ما تغيّر في عامر، ولكن هناك أشياء ما زال متمسكاً بها. أشار عامر إلى حدوث تغييرات جذرية في تفكيره بمبدأ شائع في ممارسة السلطات الأمنية مفاده: «اضرب المربوط يخاف السايب». ما حدث لعامر، الذي يحمل لقب «أول مصري يسجن بسبب تعبيره عن آرائه عبر الإنترنت» جعله عبرة لبعض من قد تسول لهم أنفسهم إطلاق العنان لحرية التعبير عن آرائهم واتجاهاتهم في الفضاء الافتراضي. ويبدو أن ما لم يطرأ عليه تغيير هو كريم عامر نفسه الذي خرج من محبسه ليتحدث بالنبرة المعترضة ذاتها، وإن كان أكثر حرصاً من ذي قبل، عند التطرق إلى الجوانب الدينية، كما أثناء التحدّث عن مقام الرئاسة. وإذ سأله بعض حضور مؤتمره الصحافي المشار إليه آنفاً، عما إذا كان سيغير نبرة آرائه أو يصبح أكثر تحفظاً في التعبير عنها، أجاب بنفي قاطع. وعلى الصعيد العالمي، لم يفتر جهد كثير من جماعات حقوق الإنسان والتعبير عن حرية التعبير والرأي، إضافة إلى بعض الجماعات الدينية ذات الآراء الخاصة، في المطالبة بالإفراج عن عامر الذي اعتبرته رمزاً للشجاعة ونموذجاً للإقدام. وفي المقابل، فإن أصواتاً أخرى لا تقل ارتفاعاً وعدداً، تصرخ على أثير الإنترنت مندّدة بالعقاب المخفّف الذي حصل عليه عامر. ثمة مجموعة من المُدوّنات الإلكترونية التي تنطق بلسان الخطاب الإسلاموي المتشدد، رأت أن نبرة عامر في التطرّق إلى الدين الإسلامي ورموزه، تحمل إهانة بالغة. وهناك فريق آخر اعتبر عامر مريضاً نفسياً يستحق الشفقة والعلاج. ولاحظ هذا الفريق أن عامر نشأ في كنف أسرة مصرية بالغة التحفّظ، مشيراً إلى أنه لم يتردد في وصفها ب «الأسرة السلفية التي دفعته للالتحاق بالتعليم الإبتدائي الأزهري، ومن ثم الحصول على الثانوية الأزهرية، ومن بعدها الالتحاق بالتعليم الجامعي الأزهري». ويرى الفريق عينه أن هذا النوع من الضغط نتج من رد فعل عكسي من قبل عامر، ما يعني أن كتاباته تشكّل نوعاً من التمرّد على أجواء أسرته المتحفّظة، التي لم تتناسب وميوله الفكرية، ما أوصله إلى الاتجاه المعاكس تماماً. ويصعب تجاهل أهمية هذا التحليل، خصوصاً عند قراءة بعض ما دوّنه عامر إلكترونياً عن عيشه في أجواء التشدّد المفرط داخل عائلته: «كان هناك الكثير من المحظورات داخل البيت. ولم يكن هناك سوى الكتب الدينية والتراثية، وهو ما لم أتحمله. فاتجهت إلى قراءات مختلفة تماماً مثل أعمال الكاتبة المصرية نوال السعداوي». وبعيداً من هذه الآراء المتناقضة والتحليلات المتفاوته عن شخصية عامر وأفعاله، يبدو أكيداً أن حبسه بتهمة الكتابة عكس التيار جعل منه بطلاً مغواراً في أسطورة لا قصة فيها، ما يعني أنه ربما كان شديد البعد من البطولة وأدوارها!