بعد مشاهدة المقابلة التلفزيونية مع الممثلة السودانية الرائدة فتحية محمد أحمد على شاشة قناة «النيل الأزرق» قبل ايام، يجوز التساؤل: كم مِن المبدعين والمبدعات في هذه البلاد، غفلتهم أو تغافلتهم، أبعدتهم أو ابتعدت عنهم، الشاشة الصغيرة؟ كم منهم راح، وطوته سنوات ما بعد الخدمة، إن جاز القول، من دون أن يحظى بفرصة الظهور على شاشة التلفزيون القومي؟ كم منهم قضى من دون أن ينعم، رمزياً، بتوثيقٍ مصوّر لمسارات تجربته ومحطاتها، ومن دون أن يشهد له الزملاء، أمام الكاميرا، المعدّة لهذا الغرض، بأنه قدم كذا وتميز بكذا وطرائفه كذا... إلخ؟ كم منهم يرقد، الآن، في فراشه، مثقلاً بالعجز والعزلة والفقر والمرض، ولا أحد يعلم بأمره؟ المقابلة التي استمرت نحو 90 دقيقة، هي الأولى - نعم الأولى - مع هذه الممثلة التي تعد من الجيل المؤسس لدراما التلفزيون، اذ شاركت، في اوائل الستينات، في عدد من الاعمال الدرامية، ومنها مسلسل «الدخان» الذي يعدّ العمل الدرامي الثاني في ذاكرة التلفزيون السوداني. وقتذاك، كما قالت فتحية في المقابلة التي أعدها وأخرجها عادل حسن الياس وقدمتها تسابيح خاطر، كانت التمثيليات التلفزيونية تُقدم على الهواء مباشرة، اذ لم يكن جهاز الفيديو معروفاً. ولم يكن من مجال للأخطاء في التمثيل، على رغم أن ظروف العمل، في شكل عام، كانت قاسية؛ فلا استوديوات أو صالات للبروفات التي «كانت تُجرى تحت شجرة»، ولا غرفة للمكياج أو الازياء، ولا عوائد مادية تذكر... كل ذلك في زمن كان من الصعب على المرأة أن تطل على شاشة التلفزيون إلا بالتحايل والمغالبة؛ إذ لم يكن مسموحاً لها، خصوصاً في المدن الصغيرة، أن تخرج من البيت إلى الشارع. اذاً، نازعت هذه الممثلة الرائدة طويلاً، وبلغ بها العمر وهي تكابد. انحنى ظهرها، ضعف بصرها، وشحب وجهها الذي لطالما اعتمل بالتعبيرات الدرامية الموحية والمؤثرة، هي التي قاومت ظروفاً أقل ما يمكن ان توصف به بأنها «معادية»، حتى سجلت للمرأة حضورها فى ذلك المشهد التأسيسي. وخلال 40 سنة تالية لسنوات التأسيس، شاركت فتحية محمد أحمد في عشرات الاعمال الدرامية المهمة (المركزية كما يطلق عليها) في المسرح والتلفزيون والاذاعة. منها مسرحيات مثل «تاجوج» و«ابليس» و«خطوبة سهير» وغيرها. وثمة في التلفزيون مسلسلات مثل «الدلالية» و«النهاية المحتومة» و«موت الضان»... ورصيدها من الاعمال الدرامية القصيرة والطويلة في الاذاعة أكبر. تجربة غنية لم تجد بين معدّي البرامج التلفزيونية ومخرجيها، من يقدّرها. بالطبع لا يمكن ان يمثل ظهور الفنان في برنامج حوار معياراً لقيمته، لكنه استحقاق لطالما حُرمت منه هذه الممثلة الكبيرة التي اعتزلت اخيراً في بيتها! ترى، كم مثلها من الممثلاث والمطربات والتشكيليات الرائدات جهلهن التلفزيون أو تجاهلهن فلم يجدن من يذكرهن أو يتذكرهن بين الناس؟