كان طريفاً، وربما ظريفاً، من «هيومان رايتس ووتش» أنها في ذكرى أحداث السابع من أيار في لبنان انتقدت عدم إعلان سلطات هذا البلد نتائج تحقيقاتها في مقتل المدنيين في ذلك اليوم، وذكّرت بأن القضاء اللبناني لم يُصْدر غير قرار اتهام واحد لشخص أطلق النار على مدنيين. والمعلوم أن 110 قتلى سقطوا في ذلك اليوم الذي وصفه أمين عام حزب الله بأنه يوم مجيد من أيام المقاومة، من دون أن يكترث طبعا بما أثارته المنظمة الحقوقية التي لا يعبأ حزب الله وأي من القوى الملتحقة به، كما غيرهما في الضفة السياسية الأخرى، بتقاريرها وبياناتها، من قبيل إشارتها في آب (أغسطس) الماضي إلى ارتفاع الوفيات بين عاملات المنازل الأجنبيات في لبنان، ودعوتها إلى التحقيق في أسباب ذلك، وبأن تخرج «خطة وطنية» لتقليل هذه الحالات التي ردّتها إلى سوء معاملة وسوء أوضاع، تتعرض لها الخادمات اللواتي انتحرت عشرات منهن. مبعث الفكاهة في طلب المنظمة الشهيرة، والتي يريح عربا كثيرين رميُها بأنها أميركية، في افتراضها أن للدولة اللبنانية كل السلطة على كل رعاياها، وكل الولاية على كل أراضيها، وتقوم بكل ما على أي دولة من وظائف تقليدية تجاه مواطنيها، ومنها حمايتهم ومحاسبة المعتدين عليهم. وقبيل ذلك اليوم من أيار العام الماضي، حدث أن حكومة الدولة اللبنانية قررت إحالة الشبكات الهاتفية غير الرسمية في البلاد إلى التحقيق بشأنها، ونقل مسؤول أمني في المطار من عمله. لم يرق القراران لجماعة مسلحة تعلن أنها تحصر مهمتها بالمقاومة ضد إسرائيل، وتأذن لنفسها بأن تعتبر الحكومة غير شرعية، من دون أي اعتبار لإجراء دستوري أو استئناس بمراجع قانونية مختصة. فأقدمت هذه المجموعة، المشهود بصمودها وبسالتها ضد إسرائيل، على استخدام سلاحها في مهاجمة ناس عديدين ومرافق وشوارع وميادين ومؤسسات وتلفزات، وسقط في الأثناء قتلى ومصابون، لا أحد معنيّ بضبط عددهم. المرويات وفيرة عن عنف كثير مارسه مسلحون من كل الأطراف في ذلك اليوم الذي دللت زعامة حزب الله، في وصفها له بأنه مجيد، على إحساسها بفائض القوة والنشوة بها، على ما أشار فؤاد السنيورة محقّا. ولم تقم بعد في لبنان دولة عادلة قوية، يرفع شعارها السيد حسن نصر الله، فتحقّق في الذي حدث وتحاسب مرتكبي ذلك كله، فتنظر أجهزتها المختصّة في تسجيلات فيديو أُعطيت للإدعاء العام تُظهر من قتل أعضاء في الحزب القومي السوري في حلبا بالشمال. وتنظر في شهادات نشرتها صحف بيروتية لضحايا من الحزب التقدمي الاشتراكي تعرضوا لتعذيب وتنكيل من عناصر في حزب الله، وإلى ذلك وغيره، ثمة استباحات ارتكبها مسلحون ينتسبون إلى قوى مقاومة وممانعة، طالما استسهلت تخوين مخالفيها. وفي البال، أن الأمين العام لحزب الله أعلن غير مرّة أنه سيكشف أوراقا ودلائل تثبت تواطؤا مزعوما قامت به الحكومة اللبنانية ووزراء فيها مع العدوان الإسرائيلي صيف 2006، لكن سماحته لم يُشهر شيئا من ذلك. يُؤتى على ذلك، وكان المرتجى أن يُبادر حزب الله وجميع القوى اللبنانية إلى فتح نقاش مسؤول وجدّي في البرلمان وخارجه بشأن أي أوجه تقصير قد تكون وزارات في الحكومة وقعت بها في أثناء العدوان، وبشأن أي سوء أداء في العمل السياسي والدبلوماسي ظهر من الحكومة ورئيسها في سعيها إلى وقف الحرب التي قال نصر الله في أثنائها أنه لو كان يعرف أنها ستكون على النحو الذي قامت به لما أمر بأسر جنديين إسرائيليين. هي تفاصيل تتوالى من أرشيف قريب، لم تنته لاحقا بتصويت النائب محمد رعد وزملائه في كتلة حزب الله بإعطاء الثقة لحكومة جديدة يرأسها السنيورة الذي تنبأ له رعد بأنه سيخرج من المشهد السياسي ويذهب الى عند «أسياده» في البيت الأبيض. تتداعى هنا تلك الحوادث، لأنها، وغيرها كثير، تؤكد استحالة ما طالبت به «هيومن رايتس» بشأن «7 أيار» ، لأن الدولة في لبنان لا يُراد لها أن تقوم. ولأن البادي قُدّامنا كيان رخو يسير بتوافقات موسمية وسريعة ومرتجلة بين زعامات الطوائف التي تتوارث أحزابا وتيارات وتشكيلات سياسية وميليشاوية تقودها من خيار إلى خيار، بحسب مستجدّات تطرأ بين ظرف وآخر. والظريف (أيضا ؟) في الأثناء أن وهما يشيع بين كثيرين من عامة اللبنانيين وخاصتهم، أن بلدهم يرفل بالديموقراطية، على غير حال الأوطان العربية، فقد جهر إميل لحود مرّة، ومن دون أي حرج، بأن الديموقراطية في لبنان الأفضل في العالم، وهذا ما يزعج إسرائيل. وصرّح وليد جنبلاط، وبلا حرج أيضا، أن لبنان النموذج الديموقراطي الوحيد في المنطقة العربية، وهذا سبب استهداف سورية له. ولو صحّ شيء من ذلك، لما كانت الطقوس الانتخابية في لبنان على الصورة التي عليها، ولما اخترع أحدٌ بدعة مشاركة المعارضة في حكومة وتبقي على نفسها وصف المعارضة، وهذا من العجائب الفريدة، بالنظر إلى أن العقل البشري اجترح قاعدة موجزها أن الحكومات تُؤلف دستوريا لتحكم، لا لتقرر سلفا كيف ستتعطل، ومن تُعطى له حقوق تعطيلها. الواضح أن «هيومان رايتس ووتش» ليست مقتنعة بحديث حزب الله عن حرب مذهبية كانت ستشتعل لو لم يبادر الحزب ومن معه إلى الحسم العسكري إياه قبيل الذهاب إلى اتفاق الدوحة. وهنا، تلزم التثنية على هذا الإجراء إذا يسّرت الحقائق الدالة على ذلك الزعم هيئات مستقلة، أو أجهزة تحقيق تابعة لدولة يتم الاطمئنان إليها. ولأن شيئا من هذا أو ذاك غير ماثل، لا يصير التسليم بالذي يروجه حزب الله من الفرائض، بدعوى أن ناس الحزب من أهل المقاومة الباسلة ضد إسرائيل، فالمسألة ليست أن القول ما قالت حَذام فصدّقوها. إنها تتعلق بالتمسك بمشروع دولة ناجزة ذات مداميك غير رخوة، غير مخلّعة ومشوهة كما الدولة الراهنة. فوحدها تلك الدولة المتمناة، الغائبة عن أن تكون برنامجا متوافقا عليه في لبنان، هي التي في وسعها أن تقوم بالذي تطلبه المنظمة الحقوقية الشهيرة، المشغولة أيضا بمعيشة خادمات المنازل في البلد الديموقراطي الفريد، أي التحقيق في الذي جرى في يوم «7 أيار»، الأليم والمشؤوم بحسب سليم الحص، وتحديد كل المسؤوليات بشأنه، ومعاقبة من يستحقون العقاب. وإذ يقول الرجل الأقوى في لبنان، وصاحب السلطة الميدانية الأهم، أن ذلك اليوم كان من الأيام المجيدة للمقاومة، فذلك لا يعني غير أن تلك الدولة المشتهاة تزداد ابتعاداً. * كاتب فلسطيني.