لا يختلف اثنان على ما قدمته التكنولوجيا من منافع، وعلى تحويل العالم قريةً صغيرة متصلة، وتقصير المسافات وتيسير التواصل، وتقديم وسائل ترفيه للكبار والصغار. لكنها، في المقابل، سرقت الطفولة من أصحابها وجعلت منهم أشخاصاً عنيفين يحبون الوحدة ويقضون ساعات طويلة أمام شاشات الكومبيوتر والبلايستيشن وغيرها. تشير إحصاءات، لمجموعة من المنظمات المدنية في الأردن، الى ان عدد مستخدمي الانترنت في البلد بلغ 1.5 مليون مستخدم نهاية النصف الأول من العام الحالي، بنسبة انتشار وصلت إلى نحو 24 في المئة وتجاوز عدد اشتراكات الهواتف الخليوية في الأردن عدد السكان لأول مرة في تاريخه اذ سجلت نسبة الانتشار نحو 91 في المئة نهاية الربع الثالث من عام 2009. وهناك ملايين الأقراص المدمجة لألعاب الفيديو والكومبيوتر الإلكترونية بمحتوى يتضمن العنف والاستغلال وفي بعض الأحيان الإباحية تباع على قارعة الطريق من دون رقيب أو حسيب. الدكتور هاني جهشان، مستشار الطب الشرعي والخبير الدولي في مواجهة العنف ضد الأطفال لدى مؤسسات الأممالمتحدة، يقول أنه على رغم التقدم في الانترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومنافعها، لا تزال هناك حاجة ماسة لمزيد من الجهود الوطنية في سبيل المواءمة بين هذه المنافع وحماية الأطفال من الجوانب السلبية، وهذا يشكل تحدياً كبيراً لا يجوز التراخي معه. ويلفت إلى أن الانترنت ووسائل الإعلام الأخرى تلعب دوراً أساسياً في نقل المعارف الجديدة للطفل وإكسابه السلوكيات والقيم الاجتماعية الإيجابية، إضافة الى ان الوصول الى المعلومات يعد حقاً من حقوق الطفل. ويشير إلى دور التكنولوجيا في إتاحة المعلومات العلمية والأبحاث وتوفير وسائل الحماية المباشرة للأطفال في كثير من الأحيان، ثم يحذر من انه حين لا يخضع وصول الأطفال إلى محتوى المواد الإعلامية لمراقبة كافية من قبل الوالدين أو مقدمي الرعاية الآخرين، فستتاح لهم حتماً مشاهدة مواد عنيفة وسيئة وإباحية، كما أن «غياب هذه المراقبة على استخدام وسائل الاتصال، بما في ذلك الهاتف الخليوي والإنترنت، ينطوي على خطر حقيقي من تعريض الصغار لكل أشكال الاستغلال». ويرتكز جهشان على أن دراسة الأمين العام للأمم المتحدة المتعلقة بالعنف ضد الأطفال أبدت قلقاً كبيراً من تقصير الحكومات في الحد من تعرض الأطفال لمشاهد العنف والإباحية ومشاهد السيطرة واستغلال الذكورِ النساءَ والفتيات في التلفزيون وفي الأفلام وألعاب الفيديو والإنترنت. وهذه الأمور تعزز العنف والعدوانية والتحيز ضد المرأة، وتزيد من تقبلهما في المجتمع، إضافه الى أن الأطفال والشباب الذين لا يراقبهم الأهل، أو ممن ثقتهم بأنفسهم ضعيفة، أو الذين يحتاجون إلى توجيه وإرشاد في حياتهم، معرضون في شكل خاص للعواقب السلبية المتصلة باستخدام الألعاب الإلكترونية والإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. وأثبتت دراسات ذات صلة أن تأثير مشاهد العنف في التلفزيون والإنترنت والأفلام والعاب الفيديو والعاب الكومبيوتر على الأطفال حتى سن 18 سنة، تحد من استثارة التفكير والعواطف، فتؤدي إلى سلوك عدواني لدى الأطفال، وتزيد من احتمال تعرض هؤلاء الأطفال عند كبرهم للاضطربات النفسية والتعود على الكحول والمؤثرات العقلية وحتى ارتكابهم الجريمة. ويقول جهشان إن المخاطر التي يواجهها الأطفال بسبب تعاملهم مع الألعاب الإلكترونية والإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات تمتد من تعلمهم العنف الجسدي واللفظي المباشر إلى تعرضهم لمشاهد العنف الجنسي وفي شكل أكثر تحديداً الإساءة الجنسية للأطفال والمشاهد الإباحية التي يشارك فيها الأطفال. ويتم تدارك المشاكل من هذا النوع في شكل جيد في الدول المتقدمة تكنولوجياً، في حين أن هذه المسألة، على خطورتها، لا تؤخذ بجدية في الدول النامية على رغم وضوح العواقب المدمرة للفرد والأسرة والمجتمع. وهناك مؤشرات مبنية على الخبرات الميدانية بالتعامل مع العنف الذي يمارسه اليافعون، أكان جسدياً أم جنسياً، إلى أن أحد أهم جذوره هو التعرض لمشاهد العنف الجسدي والجنسي عبر الأجهزة الإلكترونية. وهناك أيضاً مؤشرات إلى أن ما يرتكبه بعض اليافعين، كقيادة السيارات بلا مبالاة وتهور، وخوض بعض الأطفال نشاطات المجازفة بحياتهم، تعرضهم لإصابات شديدة، ما هي إلا محاكاة لما يشاهدونه في الألعاب الإلكترونية والإنترنت. مسؤولية من؟ على رغم جهود الحماية الدولية، كما يوضح جهشان، باتت الأجهزة والمواقع الإلكترونية ومحتوياتها تشكل وسائل يسيرة لترويج العنف والبغاء والاستغلال الجنسي التجاري للأطفال بل وللإتجار بهم، وكل ذلك تحت غطاء ادعاء الحرية الشخصية والانفتاح، ثم يعزز مقولته بأنه بسبب عولمة هذا الخطر لا توجد دولة محصنة او منيعة، بل، «هناك وللأسف الشديد شبه شلل في الرقابة الفاعلة على منتجي تلك الوسائط». وهو يتوقع من الدولة أن تضع خطط الرقابة على برامج الوقاية الأولية التي تستهدف الأطفال في الأسرة والمدرسة، وبرامج التوعية في أشكال العنف المرتبط بالفضاء الإلكتروني والمعلوماتي. ويشمل دور الدولة أيضاً وضع معايير علمية وعملية لحماية الأطفال لضبط المحتوى، فضلاً عن تطوير التشريعات لإنفاذ القانون بهدف تجريم كل من يوزع أو يمتلك او يتوخى الربح من المواد الإعلامية ذات المحتوى المرتبط بالاستغلال والعنف والإباحية. التعامل مع هذه المشكلة يتطلب تعاوناً على مستوى الأسرة والمدرسة والمجتمع، والأهم أن تقوم الدولة بإعداد استراتيجية وطنية لحماية الأطفال من الاستغلال والعنف والإباحية كجزء رئيس من استراتجيات الاتصالات وتكنولوجيا المعولمات الوطنية، بهدف وضع الضوابط والسياسات والأطر العملية الفعالة. ويرى جهشان أن على شركات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في القطاع الخاص أن تتحمل جزءاً أساسياً من التكلفة المالية لبرامج الوقاية الأولية وتوعية المجتمع وبرامج خدمات الحماية من الاستغلال والعنف عبر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات، وكذلك برامج تدريب المهنيين المعنيين باكتشاف هذه الجرائم وتوفير الحماية للأطفال المعرضين للخطر وللأطفال ضحايا هذه العنف. وقد لا تساهم شركات الاتصالات الخاصة بهذه البرامج في شكل تطوعي، لذا، على الدولة أن توفر البيئة التشريعية والإدارية لإلزام تلك الشركات بالمشاركة المادية في حماية الأطفال، كونها مقدمة الخدمات والمحتويات الخطيرة. رنا أمّ لولد في الثامنة من عمره، تمنع ابنها من اللعب طوال العام الدراسي، بعد أن لاحظت ميوله العدوانية، كونه يحب ألعاب الحركة والحروب. وتراقب ابنتها (13 سنة) أثناء تصفّحها مواقع الإنترنت. أحمد أب لثلاثة أطفال (بين 9 سنوات و15 سنة) لا يسمح لأطفاله بقضاء اوقات طويلة امام الكومبيوتر، ينظم لهم اوقاتهم ويراقب الألعاب التي يلعبونها ويشتري لهم البرامج المفيدة. أبو يزن بيّن ان من الصعب السيطرة على كل وسائل التكنولوجيا التي اصبحت متاحة للجميع، ولكنه اشار الى ان من الضروري التعاون بين الاهل والمدرسة، والدور الاكبر يقع على عاتق مصنعي البرامج والالعاب، اذ من الضروري الاتجاه لإنتاج البرامج والألعاب التعليمية المفيدة والمسلية، بدلاً من الألعاب التي تشجع على العنف. رائد، صاحب محل ألعاب وأقراص مدمجة، أشار الى ان معظم الأطفال يطلبون ألعاباً ذات محتوى عنيف، «فهم يفضلونها على البرامج التعليمية... ومعظمهم يأتون من دون مرافقة اولياء الامور ويشترون ما يريدون»، كما يقول.