احتفلت مواقع الانترنت «الحركية» بفتوى تحريم عمل المرأة «كاشيرة»، وهذا يدل دلالة قاطعة على أن أصحابها – ولا أحد غيرهم - هم من لغم السؤال الذي كان «بذرة للجواب» المنشود، وقد تعاملوا معها على أنها «حكم شرعي ملزم»، وهذا غير صحيح لأن الأمر فيه تفصيل، إذ إن هناك فرقاً بين الفتوى التي تستند على أمر إلهي صريح، مثل «فتوى وجوب الصلاة» المستندة على قول الله تعالى (وأقيموا الصلاة) التي تعتبر ملزمة، وبين الفتوى الاجتهادية التي لا تستند على دليل صريح وصحيح، وبالتالي لا «تكون ملزمة» كما هي هذه الفتوى، وهو ما سنوضحه لاحقاً. «الفتوى» - خصوصاً في الأمور التي تهم الأمة - أمر جلل، ولذا يفترض أن تكون هناك آلية علمية دقيقة لإصدارها حتى تحتفظ بهيبتها ووقارها، ولو رجعنا الى الماضي لرأينا أن انعدام مثل هذه الآلية كان سبباً مباشراً في الإقلال من شأنها حتى لا أقول تهميشها من الناس، ولنا عبرة في فتاوى تحريم بعض البرامج التلفزيونية والألعاب وغيرها من الفتاوى التي تندر عليها الناس بدلاً من تطبيقها. إنني أؤكد هنا على احترامنا وتقديرنا لأعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء الذين لا يمكن أن ننتقص من قدرهم، ونؤكد حقهم في الاجتهاد، ومع ذلك فإن لنا الحق أن نناقش الفتوى ذاتها ونتساءل عن مدى موافقتها للصواب، ما يعني أن المسألة لا تتعلق «بأعضاء الهيئة» بل «بفتوى أعضاء الهيئة». وبناء على ذلك نقول إن فتوى «تحريم عمل المرأة كاشيرة» كانت «ضعيفة» لاعتبارات عدة، أولها: أنها تدخل في باب سد الذرائع، وتفتقد إلى الدليل الصريح والصحيح، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يسوق في كتاب «رفع الملام» ما يفهم منه أن الفتوى – حتى ولو صدرت من الصحابة رضوان الله عليهم – لا تعد حجة ما لم تستند على دليل صريح وصحيح، وثانيها: أنها تتناقض مع ما هو شائع ومباح في هذه البلاد منذ تأسيسها، وهو عمل المرأة في المشافي والبنوك وغيرهما، وهو ما لم يعترض عليه كبار علمائنا المعتبرين منذ عقود، وهنا نعود الى شيخ الإسلام ابن تيميه، الذي يقرر أن الحكم على مثيل الشيء بنقيض حكمه، كالحكم عليه هو نفسه بنقيض حكمه، وهذا لوحده كافٍ لنسف هذه الفتوى من أساسها، وثالثها: أنها تتعلق بمسألة خلافية، ما يعني أنها غير ملزمة لولي الأمر، لأن الإلزام بالعمل بمقتضاها يعني إلغاء الخلاف وهذا غير جائز، لأن كلاً من طرفي الخلاف لديه الدليل والحجة، ورابعها: أنها اجتهادية ما يعني - مرة أخرى - أنها غير ملزمة لولي الأمر، وإنما هي ملزمة للمستفتي وحده، كما يقول بذلك معظم العلماء، وخامسها: أنها تتناقض مع فتوى صادرة من الهيئة نفسها تجيز عمل المرأة بالبيع والشراء، وهو ما ذكره الزميل حسن بن سالم في مقاله بهذه الصحيفة خلال الأسبوع الماضي! وسادسها: أنها تعني تحريم عمل المرأة «كاشيرة» في عموم بلاد المسلمين، ومن المعلوم أن عمل المرأة بهذه المهنة موجود منذ القدم في كل البلاد الإسلامية، ولا يمكن أن يكون أكثر من بليون مسلم على خطأ، كما لا يمكن أن نشكك في المكانة الشرعية لعلماء تلك الدول المبيحين الذين كان بعضهم أساتذة لبعض علمائنا! وسابعها: أن المفتي قد يفتي بشيء ثم يفتي بخلافه في وقت آخر، كما فعل الشافعي – رحمه الله - وهذا ما يدل على أن الفتوى في هذه الحال تكون غير ملزمة للمفتي نفسه – بمعنى غير ملزمة له بالنزول على حكمها مستقبلاً - فما بالك بغيره؟ وفي سياق مشابه فإن علماءنا الأفاضل كانوا يصدرون فتاوى مختلفة في المسألة الواحدة من مسائل الاجتهاد، وما زلت أذكر أن شخصين - أعرفهما جيداً - أديا فريضة الحج وحصلت منهما «المخالفة ذاتها» فاستفتى أحدهما الشيخ ابن حميد، رحمه الله، فأفتاه بأن عليه أن يفدي، أما الآخر الذى استفتى الشيخ ابن باز - رحمه الله - فقد قال له «افعل ولا حرج»، إذن فهذا مع كل ما سبق يدل دلالة قاطعة على أن الفتوى ما لم تستند على «أمر إلهي صريح وواضح»، فإنها لا تعتبر حكماً شرعياً ملزماً، بل اجتهاداً يخص المستفتي فقط. وختاماً، أود أن أؤكد على أهمية أن يكون المفتي مدركاً لمقاصد الشريعة ومتمكناً من فقه الواقع ومطلعاً على أحوال المجتمع وعلى المتغيرات العالمية، إضافة الى تبحره في العلم الشرعي، حتى لا تكون فتواه خارجة عن السياق في الأمور التي لا يوجد فيها نص شرعي صريح وصحيح، وأذكر في هذا الخصوص أن أحد العلماء الأفاضل سئل عن حكم جمع الصلاة وقصرها على سطح القمر، ومع أنه كان الأولى به ألا يرد على سؤال افتراضي مثل هذا احتراماً «لمكانة الفتوى وحفظاً لهيبتها»، إلا أنه قال للسائل: «وأنت مصدق أنهم طلعوا للقمر؟ هذه خرافات»، مناقضاً بذلك حقائق علمية ثابتة لا تقبل الجدل، ثم بعد ذلك أجاب عن السؤال! ما يعني أهمية أن يكون هناك اشتراطات خاصة بمن يتحمل مسؤولية الفتوى، لأن أمرها عظيم ويتعلق به مصير كثير من أمور الأمة، ولأجل ذلك وما يشابهه فإنني - شخصياً - أتمنى أن أرى علماء مثل المفكر سلمان العودة وقد أصبحوا أعضاءً في اللجنة الدائمة للإفتاء، فهل توافقونني؟! * كاتب سعودي. [email protected]