كان رجل الدين ولا يزال الصيغة المبكرة للمثقف في المجتمعات الإنسانية. يصفه المفكر الإيطالي غرامشي بأنه مثقف تقليدي. لكن صفته الحقيقية أكثر تعقيداً من ذلك. فهو بالفعل مثقف تقليدي من حيث تعلقه بالفكر الموروث، وإصراره على إعادة إنتاجه جيلاً بعد آخر على قاعدة أنه «لا يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»، أو أن «شرع من قبلنا هو شرع لنا»، هكذا بإطلاق. لكن رجل الدين هو مثقف عضوي أيضا لأنه لم ينبت هكذا فجأة وبمعزل عن العوامل والقوى الاجتماعية المحيطة. ومن ثم فهو مثقف عضوي من حيث علاقته بالطبقة أو الجماعة، أو الدولة التي يرتبط بها، ويمثل رؤيتها. هنا يبرز سؤال: كيف يمكن لمثقف تقليدي، يعيش على الماضي، أن يرتبط بالدولة، وهي بحكم طبيعتها لا يمكنها أن تركن دائماً إلى الماضي، بل كثيراً ما تجد نفسها مجبرة على مسايرة حركة المجتمع والتاريخ؟ السؤال مغلوط لأنه يطرح الإشكالية بإطلاق، ومن دون إطار تاريخي محدد. السؤال الأصح هو: متى تبرز معالم الإختلاف والمفارقة بين نموذج المثقف التقليدي وما يمثله، وبين نموذج الدولة، وما ينطوي عليه؟ من الطبيعي أنه في لحظة ما كان هناك تطابق في رؤية كل من طرفي المعادلة. ثم تأتي حركة التاريخ لتفعل فعلها، وتبدأ بالكشف عن مكامن الإلتقاء، ونقاط الإختلاف بينهما. وقد مرت التجربة السعودية بشيء من ذلك أكثر من مرة. فقد إصطدم منطق الدولة من ناحية، مع منطق القبيلة، ومنطق الفكر الديني من ناحية أخرى. حصل ذلك في أواخر العقد الثاني من القرن الماضي مع «الأخوان». وحصل بعد ذلك مع إستيلاء جماعة جهيمان على الحرم المكي عام 1979. وفي كلتا الحالتين إنتصر منطق الدولة. في الوقت نفسه لم تتأثر العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية. والسبب الأهم في ذلك أن المؤسسة الدينية إنحازت للدولة، وبقيت سنداً لها حتى في مثل تلك اللحظات الحرجة. ما يعني أن الصدام لم ينشأ أصلاً على علاقة بالمؤسسة الدينية الرسمية، وإنما ضد قناعتها، وهي قناعة سلفية تجعل من الإلتزام بالدولة وإستقرارها مرتكزاً عقدياً لا يجوز المس به تحت أي مبرر تقريباً. موقف المؤسسة الدينية طبيعي، وينتمي إلى تاريخ طويل. حيث كانت الحركة الوهابية التي ظهرت في القرن 12ه (18م) هي الحاضن الأول لفكرة الدولة السعودية. ولذلك نشأت الدولة أصلا على أساس تحالف بين الفقيه والأمير، تحالف كانت الشريعة هي العقد الذي يستند إليه. أضف إلى ذلك أن التعليم الديني في زمن الدولتين الأولى والثانية، وحتى أواخر القرن 13ه (19م)، كان هو التعليم الوحيد المتوفر للناس. وبالتالي كان رجل الدين، وبشكل خاص الفقيه، هو الصيغة الوحيدة للمثقف في المجتمع. وقد كان من الطبيعي أن جعلت هذه الخلفية التاريخية من الفقيه مثقف الدولة الأول والأخير في تلك المرحلة. بعبارة أخرى، إحتضن الفقيه فكرة الدولة، لينشأ بعد ذلك ويترعرع في كنفها. وبقدر ما كانت الدولة في حاجة الى الفقيه، كمصدر للمشروعية، كان هو أيضا في حاجة الى الدولة، ولما توفره له من مشروعية من خلال الأطر السياسية والقانونية التي يتحرك في داخلها. أصبح الفقيه بناء على ذلك يعبر عن روح الدولة، وعن رؤيتها، حتى وإن لم تكن هذه الدولة دينية، كما يظن البعض. في الدولة السعودية الثالثة، وتحديدا مع نهايات النصف الأول من القرن الماضي، أخذت صورة المشهد تتغير، ومعها أخذت صورة المثقف تتغير أيضاً. بقي رجل الدين هو الأبرز، والأكثر حظوة. لكن صيغة أخرى للمثقف بدأت في التبلور، وأخذت تحتل مكانها في المشهد إلى جانب الفقيه، أو رجل الدين بشكل عام. وربما أن من أبلغ المؤشرات على ذلك الحملة الشرسة التي بدأ يتعرض لها مثقفو التيارات العصرية والحديثة على يد من يمثلون التيار أو الفكر الديني، أو مثقفو الدولة الأوائل منذ أكثر من ثلاثة عقود. بدأت الحملة مع تيار الصحوة الذي بلغ ذروته بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990. وربما أن المعركة التي إستعرت حينها بين الراحل غازي القصيبي، بإعتباره كان يمثل رمزاً حداثياً مشهوراً، وبين بعض أصوات الصحوة، كانت فاصلة من حيث أن هذه الصحوة أخذت في التراجع بعدها. وقد تناول عبدالعزيز الخضر في كتابه المهم «السعودية: سيرة دولة ومجتمع» هذه المرحلة بإسهاب. واللافت في ما كتبه الخضر هو إشارته إلى الحرج الذي وجد الحداثيون أنفسهم أمامه في ثمانينات القرن الماضي بسبب كتاب صغير في حجمه وبسيط في مضمونه، صدر حينها بعنوان لافت «الحداثة في ميزان الإسلام»، ومؤلفه عوض القرني. ومصدر الحرج ما بدا أنه لم يكن بامكان الحداثيين التنصل من النصوص التي أخضعها القرني لمبضعه الديني الصحوي، وفي الآن نفسه لم يكن بإمكانهم تكذيب القرني بإعلان تماهيهم مع ما يدعو إليه من قيم ومبادئ فكرية. والأرجح أن المصدر الحقيقي للحرج لم يكن فقط الضعف المنهجي لدى بعض من إستهدفهم الكتاب، وإنما مساحة الحرية المتاحة أمامهم حينها مقابل المساحة الواسعة التي كان يتحرك فيها المؤلف وأقرانه في تلك المرحلة. في السياق نفسه، ربما أنها نوع من المفارقة أن يجد أصحاب الفكر الديني أنفسهم في حالة حرج مماثلة هذه الأيام. فيوم الأحد الماضي أصدرت «اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»، برئاسة مفتي المملكة، فتوى تحرم فيها عمل المرأة محاسبة (كاشير) في المحلات التجارية. قد يصبح ذلك اليوم من الأيام الفارقة في تاريخ العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية في السعودية. لأنه قبل فتوى اللجنة بسنوات كان مجلس الوزراء قد أصدر مجموعة من الأنظمة يحدد على أساسها قواعد عمل المرأة في القطاعين العام والخاص. وعلى هذا الأساس تحديداً أصدرت وزارة العمل أخيراً قرارها بالسماح للمرأة بالعمل كمحاسبة في المحلات التجارية. ومن ثم فإن صدور فتوى التحريم الأخيرة يؤشر إلى أن المؤسسة الدينية تختلف في رؤيتها عن رؤية الدولة حيال موضوع بأهمية وخطورة التنمية. ومصدر الإحراج هنا أن الفقيه الذي كان يوماً مثقف الدولة الوحيد، وهو مثقفها الأول الآن، لم يتمكن من مجاراة هذه الدولة، ومجاراة المجتمع في خضم التغيرات التي حدثت في العقود الأخيرة. المصدر الثاني للحرج أن الفتوى تعبير متأخر عن موقف لم يتغير كثيراً من موضوع الإختلاط، وهو موضوع أثار كثيراً من الجدل العام الماضي. وهي تضع الخاصية التقليدية لطبقة رجال الدين في حالة شد وجذب مع خاصيتها الأخرى، وهي أنها الطبقة الأولى من مثقفي الدولة التي يفترض أن تمثل رؤية هذه الدولة وتطلعاتها. أما المصدر الثالث فهو أن كل التحريمات تقريباً التي أفتى بها الفقهاء بإجتهاداتهم، ومن دون نص واضح ومباشر عن التحريم، لم تكن تعبيراً عن النص الشرعي أكثر مما كانت تعبيراً عن الموروث الاجتماعي. ولذلك سرعان ما صارت تلك المحرمات من المباحات التي يستفيد منها من تسرع وإنرلق إلى تحريمها في المقام الأول. كانت القهوة مثلا منذ زمن بعيد مكروهة، ثم أصبحت الشراب المفضل في صالونات المشايخ. ومن هناك بدأت قائمة المحرمات التي تهاوت مع الزمن، إبتداء من البدلة العسكرية، مروراً بالعقال، والراديو، والتلفزيون، والبث الفضائي، ...الخ. كل ذلك ينتمي إلى ما يسمى بالعناصر المادية للثقافة، وسبب تحريمها أنها مستحدثات تكنولوجية جاءت من خارج المجتمع. كان يبدو أن لا حاجة للمجتمع بها، ولا أحد يعرف ما ستتركه من آثار على نظامه القيمي، وعلى طقوسه الدينية. بقيت محرمات أخرى إستعصت حتى الآن على الزمن مثل الحجاب، وغطاء وجه المرأة، والإختلاط، وقيادة المرأة للسيارة، وفكرة المحرم، إلى غير ذلك. وهذه تنتمي إلى العناصر غير المادية لثقافة المجتمع. وحقيقة أن نصيبها من التغير تأخر عما حصل للعناصر المادية، يؤكد القاعدة السوسيولوجية بأن التغير في ماديات المجتمع عادة ما يكون هو الأسرع. وبالتالي فالتغير قادم. ربما يرى البعض أن رجل الدين لا يزال هو الأقرب للتعبير عن الدولة، وعن رؤيتها للعالم وللتاريخ والإنسان. وفي هذا شييء من الصحة، لكنه قول يعوزه الكثير من الدقة، وفيه الكثير من المغالطة الواضحة. فالدولة التي لا تتسع إلا للفقيه تجاوزها التاريخ. تغيرت الدولة، وتطورت في مؤسساتها، وعلاقاتها، وفي رؤيتها أيضا. رؤية الفقيه لم تعد تتسع لرؤية الدولة ولسياساتها ومصالحها. وقبل ذلك تغير المجتمع. والأساس الاجتماعي الذي إستند إليه المثقف الأول حل محله أساس اجتماعي مختلف. وهذا مؤشر واضح على أن تغيراً حصل ليس فقط في صيغة المثقف، بل في علاقة هذا المثقف بالدولة. ما الذي حصل؟ وأين يقع المثقف من الدولة في مرحلتها المعاصرة؟ * كاتب وأكاديمي سعودي