في مصر، تبدو الأجواء ملبدة بالأحداث السياسية الداخلية المتلاحقة، كعادتها مع كل دورة انتخابات برلمانية، ويزيد التلبّد أن هذه الانتخابات تسبق انتخابات رئاسية يثور حولها نقاش مديد. وفي أجواء الألفية الثالثة للميلاد، اعتاد المراقبون أن تترافق السخونة سياسياً مع حراك قوي في الفضاء الافتراضي للإنترنت وعلى شبكات الخليوي، وصفحات المُدوّنين الإلكترونيين «بلوغرز» وغيرها. وبات الحراك الالكتروني مألوفاً في مصر، إلى حدّ أن أحد مسلسلات رسوم الكرتون في رمضان الفائت، أفرد حلقة كوميدية للحديث الساخر عن «ساحة النضال الجديدة في الفايسبوك»! ويشبّه البعض العلاقة بين السلطات الرسمية والفضاء الالكتروني، بمسلسل الرسوم المتحركة الشهير عن القط «توم» والفأر «جيري». وإذ تحتكر السلطات وإعلامها وأحزابها دور القط «توم»، يتوزّع دور الفأر البارع «جيري» على عشرات المواقع والمُدوّنات الرقمية ومجموعات «فايسبوك» وغيرها. وعلى رغم صغر حجم «جيري»، إلا أنه يتمتع بقدر أكبر من الحنكة والمراوغة وابتداع سبل النجاة، ما يجعل الحسّ الشعبي أقرب الى التعاطف مع هذا الفأر الذكي والفطِن والهازئ! إن فاتك الهواء نجحت الفضائيات المصرية الخاصة خلال العقد الماضي في انتزاع اعتراف رسمي بأهميتها وقوتها. ففي البداية، تعرّضت للكثير من التشكيك ومحاولات إفقاد الصدقية. ولكنها أصرّت على وضع مشكلات المواطنين وتفاصيل حياتهم اليومية على شاشاتها، ما دفع الشاشات الحكومية إلى التخلي تدريجاً عن سياسة «كل شيء على ما يرام» و «جميع المصريين بخير» وما يشبههما. ولوقت طويل، رفض المسؤولون فكرة الظهور في تلك الفضائيات، التي وُصِفَت بأنها «تشوّه صورة الوطن» و «تهدم مسيرة التنمية» و «تنكر قاطرة الإنجازات». ثم صار هؤلاء يبادورن الى الاتصال بالفضائيات، للتوضيح والتبرير وتلميع الصورة، اعترافاً منهم بأن هذه الفضائيات تستحوذ على أكثرية عيون المشاهدين. وزادت الإنترنت في قوّة الفضائيات. إذ صار مألوفاً أن ترسل الى مواقع مثل «يوتيوب»، أشرطة تحتوي حلقات تلفزيونية ساخنة من برامج ال «توك الشو» مثلاً، أو مقاطع مصورة لكوارث متنوّعة، أو انتقادات عنيفة لمسؤولين وغيرها. وتداولت الألسن عبارة ساخرة تقول «إن فاتك الهواء، اتمرغ في اليو تيوب»، وهي نسج على عبارة مصرية شهيرة تقولك «إن فاتك الميري (الوظيفة الحكومية)، اتمرّغ في ترابه». كما تحوّلت المواد التي تبثها الفضائيات معملاً للأفكار بالنسبة للصحف المكتوبة. إذ يجرى إعادة تدوير بعض الفقرات والحوارات عبر إجراء تحقيقات موسّعة حولها، كي تنشر في صحافة الورق. وفي العامين الأخيرين، اعتادت تلك القنوات مبدأ «العصا والجزرة» الذي تنتهجه الجهات الرسمية. فإذا تعدى أحدهم الخطوط الحمر، سرعان ما يلوّح له بالحرمان من جزرة الامتيازات. ولا يجرى ذلك بصورة مكشوفة. ولكن، بات المشاهد الذكي يعرف إن كان هذا المذيع أو ذاك قد رُفِعت في وجهه «بطاقة حمراء». وهناك من يتحدى هذه السياسة، اتكالاً على أن عصر المعلوماتية لا يتيح محاصرة المعلومات، بل يجعل من يحاول فرض حصار عليها متخلفاً عن وقائع العصر. في المقابل، تفرض الأوقات الحرجة على الكثيرين اللجوء الى مقولة مكيافيللي ان «الغاية تبرر الوسيلة». وتجرى التضحية بأسُسِ الحرية المعلوماتية، والانصياع لخنق الحريات ووأد المعارضة إلى أن تعبر سفينة الانتخابات بسلام. لذا، بدأت تتضح أخيراً قائمة القرابين التي تقرر التضحية بها في سبيل تحقيق الغاية «الأسمى» المتمثّلة في عدم إثارة البلبلة بين صفوف المواطنين في هذه المرحلة المهمة، كالعادة. وجاء الاستهلال مع الإعلامي عمرو أديب المقدّم الرئيسي لبرنامج «القاهرة اليوم» المعروف بنبرة السخرية العالية، ولسان الانتقادات الحاد، على رغم أن اسلوبه في الإثارة لم يكن موضع إجماع مهنياً، إضافة إلى تمتعه بعلاقات قوية وصداقات مع كثيرين من المسؤولين. ولكن العلاقات والصداقات تعجز عن التدخل في عصر الفضائيات والإنترنت، الذي يضمن انتشار المعلومة والرأي الحاد المنتقد الحكومة، في ثوانٍ معدودة. ويورد موقع «القاهرة اليوم» الإلكتروني، ضمن التعريف بعمرو أديب، أنه «يؤمن بأن الإعلامي يجب ألّا يسجن أو يعرض للخطر، وأن العمل الإعلامي خطير جداً، وان المذيع الناجح هو من يقدم برنامجاً حياً، برنامجاً من لحم ودم». لكن نجاح أديب في تقديم برنامج من «لحم ودم» لم يشفع له في مثل هذا التوقيت الحرج. وجرى إغلاق استوديوات قناة «أوربت» الفضائية في مدينة الإنتاج الإعلامي قبل شهر، في خطوة مفاجئة بُرّرت ب «المستحقات المالية المتأخرة»! وبعد صدور القرار بدقائق، كانت منتديات الإنترنت ومواقعها تشهد حراكاً عنكبوتياً شرساً حول أسباب الإغلاق الحقيقية، ما أطلق العنان لتوقعات لا أول لها ولا آخر. توقّف ورقي وانتشار إلكتروني على رغم عدم وجود مستحقات مالية متأخرة على الصحافي إبراهيم عيسى، جرى الإعلان فجأة عن توقفه عن تقديم برنامج «بلدنا بالمصري» على شاشة «أو تي في». والمعلوم ان عيسى اشتُهِر بانتقاداته اللاذعة للنظام في مصر، وتعديه الخطوط الحمر والصفر والخضر. ولم يقل الكثير عقب هذا التوقّف المفاجئ وعقب قرار إقالته الأكثر فجائية من منصبه الأصلي كرئيس لتحرير جريدة «الدستور» صاحبة اللسان الأكثر حدّة في انتقاد النظام. في قضية عيسى، برز مجدداً دور الشبكة العنبكويتة وقدرتها على تحدي حصار المعلومات. أُزيل اسم عيسى من الجريدة، التي ظهرت في أيام تالية بنكهة مختلفة كلياً، كما أعلن صحافيوها الإضراب عن العمل لحين عودة عيسى. وعلى الإنترنت، استمر ظهور الجريدة مذيلة بتوقيع «رئيس التحرير إبراهيم عيسى»، بمحتوى مختلف تماماً عن النسخة الورقية. وتحوّلت النسخة العنكبوتية من «الدستور» إلى نشرة دفاع عن عيسى، الذي وُصِف ب «المناضل»، «الحر»، «المعلم» الذي تحاول قوى الظلام إسكاته. ولعل أحد أبرز المدافعين عن عيسى في محنته المزدوجة هو الكاتب وطبيب الأسنان علاء الأسواني الذي كتب مقالاً في جريدة «الشروق» يسأل فيه عن مصير عيسى. وتناقلت مئات المواقع الإلكترونية مقال الأسواني، بل تُرجم إلى لغات ليتناقله آخرون. الطريف أن الأسواني نفسه تعرض لإيقاف كتاباته في جريدة «الشروق» اليومية الخاصة في آب (أغسطس) الماضي، من دون ذكر الأسباب. وفتح هذا التوقيف أبواب الفضاء الافتراضي للشبكة العنكبوتية، على مصاريعها، وانبرت المواقع والمُدوّنات والمنتديات الرقمية وغرف الدردشة وصفحات «فايسبوك» للتكهن بأسباب «اختفاء» كتابة الأسواني. طاول هذا النزاع شبكات الخليوي أيضاً، بحسب ما يظهر في حال رسائل «أس أم أس» حاضراً. ففي مطالع الشهر الماضي، أطلّ «الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات» بقرار يعلن فرض قيود تنظيمية على الرسائل الإعلامية والإخبارية التي ترسلها المؤسسات الإعلامية والشركات الدعائية ومنظمات المجتمع المدني وغيرها على الهواتف المحمولة. وغني عن القول ان البيان يعني بداهة، إرسال إشارة خضراء للبدء بتطبيق رقابة على محتوى رسائل الخليوي القصيرة ومضمونها. وقد أُخطِرت الشركات الثلاث التي تدير شبكات الخليوي في مصر بعدم تقديم خدمة الرسائل القصيرة التي تُرسَل لأعداد كبيرة من المواطنين، إلا بعد الحصول على موافقة من وزارة الإعلام والمجلس الأعلى للصحافة أو الوزارات والهيئات الحكومية المتصلة بموضوع رسائل الخليوي. وأثارت هذه الخطوة غضب «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان»، التي أكدت أن هذه التعليمات تأتي في ضوء «تعاون مثمر» بين الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وجهاز مباحث أمن الدولة. وبعدما كان في إمكان منظمات المجتمع المدني وشركات الإعلام استخدام الخدمة في نشر أخبارها مباشرة من طريق الرسائل القصيرة، بات عليها الحصول على أذونات حكومية مسبقاً، وهو ما وصفته الشبكة بأنه «يتيح للحكومة منح تصريح لمن تراه مناسباً، ورفض منحه لمعارضيها، ما يشكل تعسفاً شديداً في استخدامها كما هو الحال في الإعلام الورقي والمرئي». وأضافت الشبكة أن القرار «جاء في إطار حملة منظمة تشنها الحكومة على وسائل الإعلام المعارضة والمستقلة والحركات المطالبة بالديموقراطية في الفترة الأخيرة للتضييق علي حرية التعبير والحدّ من قدرات معارضيها في عرض آرائهم وأخبارهم كوسيلة يستطيع من خلالها المواطنون التعبير عن آرائهم بحرية». وزادت: «كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، زادت رغبة الحكومة في السيطرة على فضاءات حرية التعبير والسيطرة على وسائل الإعلام بأنواعها كافة، وهو ما أدى الى التراجع الكبير والملحوظ في حرية التعبير في مصر في الأيام القليلة الماضية».