فور وقوع ما جرى في عيادة الدكتورة إيمان شراره في الضاحية الجنوبية كان التساؤل الذي قفز إلى الأذهان: هل بدأت فعلاً المنازلة الميدانية واللوجستية بين «حزب الله» والحلفاء من جهة، والمحكمة الخاصة بلبنان من جهة ثانية؟ وبدا ظهور أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله المفاجئ ليل الخميس ليُعطي قوة دفع جديدة لما جرى التنبيه اليه أكثر من مرة من حيث ان المحكمة الدولية وبقرارها الاتهامي المتوقع صدوره في أي وقت ستأخذ البلاد والعباد إلى متاهات فتنوية مدمرة وهو ما يعَّبر عنه بالمفاضلة بين المحكمة والاستقرار، مما يضع صدقية هذه المحكمة ومهنيتها وعدم تسييسها على المحك. ومن غرائب الأمور أن يصبح الحديث عن الفتنة وكأنه من عاديات الأمور ويجري التداول في شأنها، كما لو أنها دعوة إلى كوكتيل، أو إلى حفل استقبال! مع الخوض في تفاصيل الزمان والمكان لهذه الفتنة الافتراضية. ويتزايد يوماً بعد يوم عدد القلقين على الوضع في لبنان وأحدث هذه الدول هي الولاياتالمتحدة الأميركية. وعندما تقلق أميركا ماذا علينا أن نفعل؟ هل نطمئن إلى مشاعر التعاطف مع الوطن الصغير، أم ان هذا النوع من القلق يبعث على المخاوف أكثر فأكثر؟ واستناداً إلى صحيفة «نيويورك تايمز» فإن الإدارة الأميركية «تشعر بالقلق في الآونة الأخيرة من الاستقرار الهش في لبنان أكثر من قلقها من حال الجمود في مفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية». ويشير المقال إلى ان إدارة الرئيس باراك أوباما تشعر بالقلق من الاضطرابات في لبنان ومن السلام الهش السائد «والمعرّض للتهديد من المعارضين للمحكمة الدولية». واستناداً إلى المعلومات نفسها، فإن هذا القلق دفع البيت الأبيض إلى إرسال مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان على عجل إلى لبنان ل «طمأنة» الرئيس ميشال سليمان إلى دعم الرئيس أوباما للتحقيق الدولي والاستقرار في لبنان... والنشاط الديبلوماسي الأميركي حول لبنان يأتي بعد زيارة الرئيس محمود احمدي نجاد للبنان والاستقبال الكبير الذي حظي به، ذلك ان المسؤولين الأميركيين – وباعترافهم - «شعروا بالصدمة في شكل خاص بزيارة الرئيس الإيراني لبلدة بنت جبيل القريبة جداً من الحدود مع إسرائيل». وكالعادة تحفل السياسات والمواقف الأميركية حيال لبنان والمنطقة بكثير من الإرباك والتخبط لتبدو دائماً في موقع رد الفعل للسياسة الإيرانية وسائر الدول التي تربطها بمصالح إستراتيجية. ويعترف أركان الإدارة بأن حرص واشنطن على إحداث «اختراق ما» على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي على أهميته، فإن «عرض العضلات الإيراني الأخير لن يمر من دون رد»، ويعقب فيلتمان على المشهد العام في لبنان والمنطقة بالقول: «لا نريد ان نعطي انطباعاً بأن احمدى نجاد هو اللاعب الوحيد في المنطقة». ويشهد شاهد من أهل البيت بالقول: «ان الولاياتالمتحدة محقة في إعادة تأكيد التزامها تجاه لبنان، إلا أنها تأخرت. فارتفاع أسعار الأسلحة يشير الى ان هناك ميليشيات غير «حزب الله» تتسلح، ما يزيد احتمال وقوع حرب أهلية». أما عن رأي واشنطن في معادلة: إما العدالة أو الاستقرار، فهذا خيار مصطنع «وفق توصيف فيلتمان». وفي سياق متصل، تقول مديرة مكتب الشرق الأدنى في الخارجية الأميركية نيكول شامبين: «لا يتعين على اللبنانيين ان يختاروا ما بين العدالة والاستقرار، بل يتعين ان يحصلوا على الأمرين معاً». وفي هذا الوقت شهد السجال بين الولاياتالمتحدة وسورية بعض الشدة، فبعد ان اتهم الرئيس بشار الأسد في حديثه الى «الحياة» التوجهات الأميركية بأنها أساس المشاكل التي تعاني منها دول المنطقة، ردّ ناطق أميركي بارز على هذا القول بأن واشنطن أعربت عن مخاوفها لدمشق وأن عدم الاستقرار في لبنان لا يخدم المصالح السورية. وفي خضم الأجواء الشديدة التوتر، يطرح السؤال من المواقف العربية مما يجري في لبنان والإجابة واضحة: ان معادلة «س - س» (السعودية - سورية) لم يتم تفعيل هذا التفاهم من الناحية العملية، والتحليل الموضوعي يشير إلى ان التقارب السعودي - السوري لا يمكن الحكم عليه بالفشل، بل ان المطلوب من دمشقوالرياض سلة بالغة التعقيد من المطالب الإقليمية والدولية والتي يجب أخذها في الاعتبار لدى طرح أي حل للوضع المأزوم في لبنان. كذلك يجب التوقف عند الموقف المصري والذي يرفض «تفرد» سورية في السيطرة على القرار اللبناني العام... وفي التصريحات الأخيرة للرئيس حسني مبارك ووزير الخارجية أحمد أبو الغيط دلالات واضحة على فشل كل المساعي التي بذلت لرأب الصدع بين الرئيسين السوري والمصري. وفي الوقت الذي تتجمع السحب القاتمة في سماء لبنان منذرة بشر مستطير، تتعاقب المواقف الإقليمية والدولية، ومحور كل التحركات والنشاطات الساحة اللبنانية وما تحمله من مفاجآت. ومن أقوال الرئيس مبارك الأخيرة التحذير من الآتي من الأيام على لبنان والتحذير من المداخلات الإقليمية في الشأن اللبناني. وما أشبه اليوم بالبارحة، وإليكم القصة. مع اندلاع الحروب الأهلية في الثالث عشر من نيسان (إبريل) 1975 توجهت إلى القاهرة للقاء الرئيس الراحل أنور السادات، وفي تسجيل متلفز أطلق فيه عبارته الشهيرة: «إرفعوا أيديكم عن لبنان». ولعل في استعادة ما قاله السادات في تلك الفترة والمقارنة مع ما يجري اليوم أكثر من فائدة. قلت: «كيف تنظر إلى الوضع في لبنان وما يجري فيه؟». أجاب: «إننا نعيش هنا في مصر مع الشعب اللبناني لحظة بلحظة بعد ان (أصبح) لبنان الآن هو الخط الأول للعمل العربي في المرحلة الحالية وأتذكر أنه في اجتماعنا في الرياض مع الملك خالد ومع الرئيس حافظ الأسد أنني نبهت إلى الوضع الذي نتج منه قيام حكومة عسكرية ثم سقوط هذه الحكومة... وطلبت سرعة العمل العربي من أجل ان نتلافى ما سيأتي وقد آتي فعلاً. تسألني رأيي بصراحة... أنا أقول النهارده أنه الخط الأول في المعركة العربية هو لبنان وأحيي صموده، وأضيف فأقول ان الرئيس سليمان فرنجية ذو حس عربي صافي ونحن جمعياً نعلمه صادق الفهم والوعي لمسؤولياته العربية، لذلك كان كلامي في مؤتمر الرياض، أن دعونا ننتهز هذه الفرصة والرجل لم يبق له سوى سنة وشوية، وأن نصفي أي أوضاع كان من شأنها ان سببت هذه الأمور... نصفيها بواسطة الرئيس فرنجية، وأنا أعلم أنه يستطيع ان يصفي كل هذه الأمور. لذلك كان اقتراحي في الرياض ان يتوجه أمين عام الجامعة العربية ويجمع الرئيس فرنجية بياسر عرفات وان يصير تفاهم على كل ما يريح لبنان بين المقاومة والرئيس فرنجية ويصاغ كل هذا صياغة سليمة بعلم وموافقة جميع الأطراف اللبنانية حتى لا نواجه بأي موقف آخر على أساس ان تبقى المقاومة في لبنان، ولكن أيضاً ان يكون لبنان متمتعاً بكامل سيادته وبأوضاعه، وعلى هذه الفرصة ان تأتي وأنا أبذل كل ما أستطيع ومستعد وكنت مستعداً في الجولة السابقة للمرور على لبنان وأجمع بنفسي الرئيس فرنجية وياسر عرفات ولقد تحدثت مع ياسر عرفات في دمشق في هذا الأمر، وأنا جاهز بنفسي أن أتوجه إلى لبنان لأجمع الاثنين معاً، ولكن لا بد من تهيئة هذا الأمر، ولكنني أضع ثقتي الكاملة في حس وعروبة وصدق سليمان فرنجية». وفي جانب آخر من المقابلة التلفزيونية، قال الرئيس أنور السادات: «أنا أرفع الصوت عالياً... إرفعوا أيديكم عن لبنان»، وكان يقصد تحديداً سورية. وأضاف في جلسة خاصة أعقبت التسجيل: «يكفينا فلسطين واحدة، لسنا بحاجة إلى فلسطين أخرى ولبنان على شفير الهاوية». وهكذا بين الرئيس الراحل أنور السادات والرئيس الحالي حسني مبارك، تاريخ يعيد نفسه بدقة متناهية. وإذا كنا قد وضعنا لهذا المقال عنوان «معجل مكّرر»، فهذا يرمز إلى تكرار النداءَات نفسها التي أطلقت منذ خمسة وثلاثين عاماً. وبعد... وقياساً على ما جرى حتى الآن، وفشل الكثير من المحاولات، لم يعد يكفي التحذير من مغبة الوقوع في الفتنة، بل المطلوب العمل على تجنيب لبنان هذه الفتنة. وإذا كانت للعوامل الإقليمية والدولية انعكاسات على الساحة اللبنانية فما من شيء يغفر للبنانيين ما صنعته أياديهم. ومقابل المطالبة برفع الأيدي عن لبنان، المطلوب وبإلحاح شديد ان يضع اللبنانيون أيديهم على وطنهم... قبل ان يغرق الوطن في قعر البحار والمحيطات. الفتنة أولها كلام وثانيها تسريبات وثالثها محكمة دولية! (ربما). لعن الله من أيقظ الفتنة وسهّل لها المرور لاختراق الوطن من النهر الكبير في الشمال إلى رأس الناقورة في الجنوب. * كاتب وإعلامي لبناني