سؤالان أساسيان يطرحان نفسهما في ما يتعلق بمسألة الحوار، يتعلق الأول بمرمى الحوار، أما الثاني فيخص طرفيه. فهل غاية الحوار هي توحيد الأفكار، أو كما يقال عادة البحث عن النقاط التي يلتقي عندها الطرفان، أو على الأقل تحقيق الحد الأدنى من الإجماع؟ هل تكمن وظيفة الحوار في لم الشتات وتحقيق الوئام؟ ثم هل الحوار مجرد مناسبة يلتقي فيها طرفان موجودان محددان قبل الدخول في الحوار، أم أن الطرفين يتشكلان كطرفين، أو على الأقل يتحولان أثناء الحوار وبفضله؟ في ما يتعلق بقضية الإجماع أولاً يظهر أن كل حوار يسير أساساً في اتجاه الحفر عن نقاط الخلاف، قد يكون ذلك ربما للبت فيها كنقاط خلاف، الا أن الحوار ينتهي مع ذلك بأن يكشف أن كل تفاهم مفترض يخفي وراءه سوء تفاهم أصلياً. فكأنما يسير الحوار فعلاً نحو التنقيب عما لا يرضى عنه الطرفان. على هذا النحو، فإن الحوار لا يرمي أساساً إلى أن يحقق الحد الأدنى من التفاهم، وإنما يهدف، على العكس من ذلك، إلى أن يبين أن ما يقدم كنقاط التقاء قد يكون نقاط انفصال، وما يعتبر تفاهماً قد ينطوي على سوء تفاهم. إلا أنه ليس بالضرورة سوء تفاهم بين الأطراف المتحاورة، بل انه قد يكون أساساً سوء تفاهم كل طرف مع نفسه. لا بد والحالة هذه من أن يعيد كل طرف من طرفي الحوار النظر في ذاته. حينئذ لا يغدو الحوار مجرد مناسبة التقاء، وانما آلية ل «صنع» الذوات المتحاورة. بناء على ذلك ربما ينبغي في هذا الصدد إعادة النظر في مفهوم الحوار ذاته. فليس الحوار مجرد تبادل الكلام بين أكثر من طرف بغية التوصل إلى حد أدنى من التراضي. وحتى وإن كان لا بد من الحديث عن التراضي كمرمى للحوار، فإنه التراضي المفتوح، التراضي حول الأسئلة، التراضي حول شق السبل وفتح الآفاق، التراضي لا حول ما يطمئن ويرضي، بل التراضي حول ما لا يطمئن وما لا يرضي. ذلك أن النقاط التي يبدو أن الأطراف لا ترتاح فيها الى بعضها، والتي يتأزم فيها الحوار كما نقول عادة، لا تفرق بين المتحاورين، بين الأنا والآخر، وإنما بين الأنا وبين نفسه. انها تحدث شرخاً يفصل بين الذات وبين نفسها، بين الفكر وبين مسبقاته، أو لنقل بين الفكر وبين نفسه وهو يسعى الى الانفصال عنها. فكأن المسافة بين المتحاورين تزداد قرباً كلما ازداد بعدهم، لا عن بعضهم بعضاً، بل عن ذواتهم. كأن المتحاور لا يزداد قرباً من الآخر الا اذا ازداد بعداً عن نفسه. كأن الالتقاء بين أطراف الحوار لا يتم إلا عند نقاط افتراق، وكأن الاتصال بينها لا يتم إلا عند نقاط انفصال: نقاط التأزم والتأزيم التي تتحرر عندها الذات من يقينياتها وتتخفف من «حقائقها». إنها النقاط التي يغدو عندها أطراف الحوار «في الهم سواء»، وليس أي هم، بل الهم الفكري «الذي تتحول فيه الأشياء التي تبدو معروفة إلى أشياء تكون أهلاً للمساءلة»، على حد تعبير هايدغر. * كاتب مغربي