يقسم العمل السياسي إلى ثلاثة علوم: علم للعامة وعلم للخاصة وعلم لخاصة الخاصة. علم العامة أعلى درجاته ما هو تعبوي، وعلم الخاصة (أي المثقفين) أعلى درجاته الفكر السياسي، أما علم خاصة الخاصة فهو «المسكوت عنه». أغلبه لا يُقال ويفضل أن يفهم (بالإيماءات) وباتفاقات الجنتلمان. يدعي هذا المقال أنه يتحدث عن المسكوت عنه. لن يقبله العامة، وقد يجرّمه الخاصة، لكنه ثبت بواقع الحال. وطموح الى أن يتعلم منه بعض الساسة: قيل في السياسة الكثير مما عكس الخبرة تارة والصدمة تارة أخرى. فبعض ما قيل يستحق الاهتمام وبعضه يستدعي الضحك ومنه ما لا يستدعي الالتفات، قيل: السياسة َتناظر المرأة وتعاكسها كما المرآة، فالسياسي إذا قال نعم فإنه يقصد ربما، وإذا قال ربما فإنه يقصد لا، وإذا قال لا فإنه ليس بسياسي. والمرأة إذا قالت لا فإنها تقصد ربما، وإذا قالت ربما فإنها تقصد نعم، وإذا قالت نعم فإنها ليست بإمرأة. على من يود أن يعمل بالسياسة أن لا يكون رأسه من صخر ولا من شمع، إذ يقول كونفوشيوس إذا كان رأسك من شمع فلا تسر تحت الشمس، فالسياسة شمس عليك أن تتقي حرقها، فلا تجعلها لا تكتفي بتذويب شمعك. ولا تذهب إلى احتقار أحد فالمحتقر اليوم قد يكون رجل الساعة غداً بحسب لتزاروس، وأخطر ما في السياسة أنها تلمّع ما لا يمكن أن يضيء وحده. يقول مثل إنكليزي: حين يتحرج الموقف لا يطلب الناس أمهر السياسيين بل أقواهم، إذ يعتمد القادة في أحرج الأوقات على الجنود وليس على القادة، والقوة حينما تتهدد الأوطان تحتاج إلى منفذين جيدين. فديبلوماسية بلا قوة، مثل الموسيقى بلا آلات كما يقول لتزاروس. ونقول (نحن) في السياسة: إن النجومية عبء. وأن لغة السياسة لا تحب النجوم، وإن تعاملت معها فإنها لا تحب أن تراها تضيء كثيراً، ولهذا فإن اختيار الظل بين الآونة والأخرى، هو نوع من الحصافة. وثمة سقف لكل شيء، فلا ترفع سقف الأشياء من حولك، وحاول أن تطير مع التضاريس. لا تحلق بعيداً... ولا تخبط بالمرتفعات. ونردف: العالم ليس الخريطة. وواقع السياسة ليس ما تريد وما تأمل، وهو ليس عجينة تكيّفها كما تشاء. حاول أن تصنع الأحلام، ولكن في اللحظة المناسبة صادق على الواقع، كي يتغير. وتعلم قول ابن خلدون ومن بعده روسو فماركس: «ثمة طبيعة للأشياء، ولكي تطيعكم الطبيعة يجب أن تطيعوها»، قبل أن يتفلسف الأمر مع هيغل إذ يقول: «شرط التجاوز والنفي التحقق». لا تعلم زيادة عن حجمك، هذه القاعدة تتأتى بالاعتماد على أسطورة إيكاروس ومنه جاء فيلم (I for Icaros): «لا تنسَ نصيبك من الغباء». تبدو القاعدة هنا منفّرة ولكنه الغباء الذي هو أبلغ درجات الذكاء!. وهنا في الأسطورة ما يدعم الفكرة: فإيكاروس إله تعلم منه من كتبوا الأقوال في السياسة الكثير، ذلك أنه كان فضولياً فرغب بمعرفة جوهر الحقيقة فقالوا له إنها في الشمس فركّب جناحين من شمع وطار، فلما وصلها ذاب الشمع وسقط، وعليه جاءت القاعدة في السياسة بمعادلة تقول أيضاً: «لا تعرف زيادة عن اللزوم»؛ لأنك يجب أن تعرف بحدود موقعك، فلا مكان لا للفضول ولا لغة (فاوست) المعرفية والعَطِشةِ للمعرفة بلا حدود في السياسة. وإذا كان لك أن تعلم، ولو بالصدفة، فعليك... ألاَّ تعلم. قال كليمنصو: «إن السياسة أخطر بكثير من أن تُترك للعسكريين» ويضيف إليها بعض المتضررين مفردة (بعضهم). وهذا يجسد مقولة كلاوزفيتش: «الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى؛ أي لا حرب للحرب، ولكن الحرب بالتعريف ديبلوماسية العنف، بينما المفاوضات ديبلوماسية السلم وكلاهما... سياسة». الهزيمة... لا الانكسار! في لغة السياسة قاعدة تقول عليك أن تتعلم كيف تهزم!. لا أن تنكسر. وإن أصعب المواقف هي لحظة رجل الدولة، التي عليه فيها أن يكون ممتلكاً القدرة على تحييد عواطفه. ذلك أنك يمكن أن تنتصر وهذا يحتاج إلى تخطيط، وسيكون تعاملك مع النصر إما بالاحتفالات المفرطة، وعندئذ إذا تعرضت لنكسة ستكون بالمقارنة مع احتفالاتك بالانتصار هزيمة وإن لم تكن كذلك. أما حين تهزم، فإن عليك أن تتعلم لغة أكثر تعقيداً: أولها أن ليس ثمة من انتصار دائم، وعليه، أن تهيئ نفسك لاحتمالات الهزيمة، أي أن تتحضرّ لها، وترسم طريقة إخراجها. وثانيها أن هزيمتك يجب ألا تكون نهايتك بل بمثابة تحضير لجولة ثانية، ذلك أن دين ودينونة الحياة عموماً والحياة السياسية خصوصاً هو الصراع، وانك إذا تعلمت أن تقع واقفاً فإنك تستطيع أن تعاود الكرّة وتربح جولتك اللاحقة. عليك في هذه الحال أن تفصل بين الهزيمة وشخصك. وأن تعتبر أن الهزيمة قد حدثت في مواجهة (فعل) لم تُصغ أبعاده بشكل مطابق لحقيقة الأشياء. وأن عليك إعادة حساباتك من جديد، وهنا تبدأ بالجولة الثانية من اللحظة التي تنتهي بها الجولة الأولى. والقاعدة المثلى التي تتأتى عنها في الأزمات ضرورة الاختيار بين السيئ والأسوأ! أحياناً لا يُفسح لك في المجال أن تختار بين الجيد والحسن ولأن عليك أن تتعامل مع المتغيرات السياسية، فإن عليك أن تواجه أزمنة لا تجد بداً إلا أن تختار بين السيئ والأسوأ. هو درس ثانٍ من دروس السياسة: (أن تتعلم كيف تخسر الجولة) لأن السياسة ليست دائماً انتصارات وإذا كان لا بد من أن تخسر الجولة فلتكن بأقل الأضرار على أن تجهز نفسك للجولة الثانية هي خسارة موقتة تجنباً للانكسار وهي كي تلتقط أنفاسك للجولة الثانية. وفي التاريخ ثمة تجارب: اجتاحت جيوش نابليون روسيا وقاربت موسكو وكانت المعارك سجالاً ولم ينتصر فيها أحد. فجأة قرر الجنرال الروسي تسليم موسكو محروقة. عارض القادة العسكريون، فقد كان تسليم العاصمة القديمة لروسيا القيصرية من دون هزيمة عسكرية مؤلماً. أصر قائد الجيوش الروسي على موقفه وقال ننسحب من موسكو كي نحمي الجيش (اذا حمينا الجيش حمينا القيصر وإذا حمينا القيصر ستبقى روسيا) وتركوا موسكو بعد أن أصبحت مدينة مهجورة. حتى الغربان قرعوا لها الطبول كي تغادر. دخلها نابليون المنتصر ولم يستطع أن يُطعم جيشه فيها لأشهر فقرر مغادرتها: انتصر عسكرياً بسبب ميزان القوى الظاهر لمصلحته وهزمه ميزان القوى الكامن (الحكمة والمكر واستخدام القوى الصغيرة على القوى الكبيرة) وبدأت ملاحقة فلول نابليون إلى أن انكسر. انهزمت موسكو في البداية وانكسر نابليون في النهاية. المثال الثاني من روسيا أيضاً: تقدمت القوات الالمانية نحو روسيا الحديثة العهد بتحولها نحو الاشتراكية. لم يكن ميزان القوى لمصلحتها، وكادت ان تنكسر. ارسل لينين تروتسكي. فاوض الالمان في اسوأ ظروف. وقع صلحاً مذلاً، هو صلح تريست ليتوفيست. هاجمته قوى في البلاشفة والمناشفة، وطلبوا التصويت على هذا الصلح، اصر لينين على ان يكون رجل دولة، ورفض التصويت قائلاً: (لقد صوت الجنود بأقدامهم) عندما انسحبوا تعالى صوت روزا الوكسمبورغ من بعيد مطالبة بموقف مشترك من الاممية الاشتراكية، قائلة: «الحرية لا يمكن ان تكون امتيازاً، الحرية حرية المعارضة، حرية كل الذين يفكرون في شكل مخالف». اجابها لينين مستخفاً بهذا الموقف المثقفاتي الذي لا يرى حدود اللعبة السياسية كميزان للقوى وكاختيار بين السيئ والأسوأ، وكتعلم للخسارة من اجل الانتصار، الحرية هنا هي كمن يود ان يوقع نفسه في مستنقع، وهذا هو العهر السياسي! المثال الرابع من مصر: وافق عبد الناصر عام 1970 على مبادرة روجرز وأدخل حائط الصواريخ وربح سياسياً وكسبت مصر الجولة عسكرياً عام 1973. دروس السياسة والحاكم قيل في السياسة: «ليس لرجل الدولة من صديق».! فلا يجب ان يُخدع لأنه لا يمثل نفسه بل مصالح عموم الناس. وأصل الفكرة يُظن أنه من فكرة الإنسان الذئبي عند (هوبز) ولكن العرب سبقوا إليها عبر مقولة «سوء الظن من حسن الفطن»، ومن ثم استُعملت عند نيكولو مكيافيللي، لكن أبرز من استخدمها بالتعميم، المعريّ حين قال: فظن بسائر الإخوان شراً ولا تأمن على سر فؤاداً ويظهر لي مودته مقالاً ويبغضني ضميراً واعتقاداً ومنها يستفاد أن السياسة أن تصمت لا أن تتكلم. هل في كلامنا هذا عن المسكوت عنه نوع من اللاسياسة. نعم ولا... ولكثرة ما طالب المتنبي بالحكم فلم يحصل عليه، قيل في السياسة: «لا تطرح نفسك لمكان. فطالب الولاية لا يولّى». وإن كان لك أن تُطالب فذلك كي تبعد المنصب عنك. وأبلغ ما جاء عند الإمام علي بن أبي طالب في السياسة قوله: صاحب السلطان أعلم بموضعه (أي بحكمه). وإن أضرُّ الأشياء عليك أن تُعلِمَ (وهنا بمعنى أن تتوهم أن) السلطان أنَّك أعرف بشؤونه منه. واصبر على سلطانك في حاجاتك، فلست أكبر شُغله (أي انك لست أهم قضية عنده). إذا قعدت عند سلطان فليكن بينك وبينه مقعدُ رجل، فلعلَّه أن يأتيه مَن هو آثرُ (أكثر أهمية) عنده منك، فيُريدَ أن تتنحَّى عن مجلسك، فيكون ذلك نقصاً عليك وشيناً. وإذا زادك الملك تأنيساً، فزِدهُ إجلالاً. السياسة والوفاء عندما أرّخ مكيافيللي لتاريخ الفعل السياسي وسلوك الأمراء الناجحين ميّز بين السلوك الشخصي للسياسي والسلوك العام، ففصل بينهما بلا هوادة. كان واضحاً بالنسبة لعلم السياسة أن فصل السياسة باعتبارها شأناً عاماً عن كل ما هو شخصي يهيئ لقيام علم السياسة (الموضوعي)!. بدا التمايز بين الشخصي والعام، وبين الذاتي والجمعيّ، معيار النجاح السياسي لرجالات الدولة. حتى أن قاعدة أن ليس لرجل المخابرات صديق تنطلق من عمومية قاعدة أن ليس لرجل الدولة صديق، لأن سوء الظن من حسن الفطن، ولأن قاعدة الإنسان الذئبي عن الفيلسوف (هوبز)، وقاعدة أن الإنسان قابل لأن يتحول عنك بسبب مصالحه التي بدأها مكيافيللي وطورها الفكر السياسي الغربي هي القاعدة التي تتشكل على أساس أن مصلحة استمرار الدولة أهم من اعتبارات وجدان رجل الدولة ومشاعره. وشدّد مؤسس علم السياسة على أنه إذا خُيّر الأمير بين محبة الناس أو استمرار الدولة فإن عليه أن يختار الأخيرة. لماذا؟، لأن استمرار الدولة يقي الناس ويضمن استمرار الأجيال، أما محبتهم فقط فلا تضمن إلا المشاعر وهذا لا يخدم استمرار الأجيال. بهذا الشكل الحاد من الانفصال بين (عقل) الدولة وشعور رجل الدولة، تأسس الفعل السياسي المحض، وتأسس علم السياسة. شيء من الصعب على الوجدان أن يتقبله، ولكن من الصعب على الدولة أن تستمر من دونه. لم يمارس أيّ من رجال الدولة الذين نجحوا إلا هذا الفصل (الحاد)، لكن طبيعة الحياة الإنسانية ذاتها والعربية خصوصاً استدعت نوعاً من المزج بين الوجدان والسياسة. تمثل هذا النوع بوفاء رجل الدولة لمن والوه أو أحبوه أو مارسوا دوراً نوعياً في تثبيت الدولة... شرط ألا يتحولوا إلى مراكز للقوى. وبهذا مُورس الفعل السياسي وضُمنت الجرعة اللازمة من التواصل الإنساني. يكون رجل الدولة (خاماً) إذا لم يراعِ التمايزات، وما لم يكن (حاراً) بمعنى ما. صحيح أنه في الحالة (الخام) ينتهي رجل الدولة إلى النتيجة الصرف و (الخام) للاستقرار السياسي، وفقاً لما يتأتى عن البرود السياسي، إلا أن خسارات، بالقيمة المضافة، (لا تلزمها حالة مفرطة في التعميم لا تأخذ بالاعتبار اختلاف الأفراد، ف (الكل) الاجتماعي أو السياسي ليس مجرد مجموع (لأفراده)، ويمكن تجنبها، باختيار أمثل لمتى تكون السياسة (دافئة ولا نقول حارة بالضرورة) ومتى تكون (مثلّجة). وهنا يختلف رجل الدولة هذا عن ذاك. لا تستطيع أن تكون رجل دولة من دون أن تجتاحك تلك المشاعر الدافئة نحو الآخرين. هذه هي طبيعة البشر، ولكن على أن لا تفقدك بوصلة استمرار الدولة. ولكن من الخطر أن تمارس فعل رجل الدولة بمنتهى البرود لأن هذا يزرع التباعد بينك وبين من هم في سمت فعلك السياسي، وأحياناً يخلق غِلاً لا مبرر له. يختلف القادة في ميزان التاريخ بفعلهم الذي يستمر بالدولة، وفي ميزان البشر المُحايثين لهم بمقدار الدفء والوفاء والكرم ووو... وكلها قيم اجتماعية وليست سياسية بالضرورة. لكن القادة الكبار هم الذين يتميّزون بالجمع بين ميزان التاريخ وميزان البشر. صحيح أن ما يبقى للتاريخ هو ميزانه، إلا انه ثبت أن في المعارك الكبرى يبقى للقادة ما هو بمعيار ميزان البشر. نقول هذا لمن لم يتعلم السياسة. هو غيض من فيض، من دروس تحتاجها السياسة كي لا تكون مادة عمل يومي. والأهم أن من لم يتعلم التاريخ لا يمكن له أن يكون رجل دولة. يمكن أن يكون رجل سياسة، لكنه لن يكون رجل دولة. فمن يتعلم؟ * كاتب سوري