إذا كان للمرء أن يفاضل بين كتب الأديب والناقد الفرنسي سانت - بوف الكثيرة، فإنه من دون أدنى ريب سيختار كتابه الأساس «بور - رويال»، ذلك ان هذا الكتاب الذي وضعه سانت - بوف في عام 1834، أسّس لنوع صار راسخاً في ما بعد، من الأدب الفرنسي: الدراسة النقدية المنطلقة، حتى قبل ولادة سيغموند فرويد، من الدراسة السيكولوجية المعمّقة. ولكن، في الوقت نفسه يتميز كتاب آخر للناقد الكاتب نفسه، ويتفرد الى حد أنه يبدو دائماً من الأفضل تقديم صاحبه من خلاله، وهذا الكتاب هو «صور نساء»، الذي أصدره سانت - بوف بعد «بور - رويال» بعشر سنوات وجمع فيه عدداً من دراسات معمّقة كان نشرها طوال تلك الفترة. ولئن كان «صور نساء» يسير، في نهاية الامر، على خطى «بور - رويال» من ناحية الشكل والهدف، فإن ميزته تكمن في انفراد شهيرات النساء من عصر الكاتب ومن بعض العصور السابقة عليه، بشغل فصول الكتاب كلها وصفحاته. فهو كما يدل عنوانه، كتاب عن النساء سواء أكنّ أديبات أم شخصيات تاريخية لعبت أدواراً في السياسة أو المجتمع. أما قراءة الكتاب فتأتي من هذا الواقع بالذات: من واقع أنها كانت واحدة من المرات الأولى التي ينكبّ فيها كاتب، من قامة سانت - بوف ومكانته على تسجيل حياة سيدات الأدب والمجتمع ونشرها في كتاب واحد. طبعا عرف تاريخ الكتابة عشرات الكتب التي تناولت سير أدباء أو عظماء، وعشرات أخرى تناولت حياة هذه السيدة العظيمة أو تلك. غير أنها كانت مرة أولى يخصص فيها ناقد جادّ كتاباً بأكمله للنساء... ليقول ان الوقت حان لتكون المرأة، وحدها، شغل الباحث الشاغل، في ترابط بين حياة مجموعة من النساء المتميزات، وبين الأزمان التي عشن فيها. وكذلك كانت مرة أولى يسعى فيها باحث الى الغوص في الثنايا السيكولوجية لحيوات الشخصيات التي يدرسها وسماتها، طالعاً من ذلك كله باستنتاجات، قد لا تبدو في أيامنا هذه استثنائية، ولكن علينا ان نقيسها بمقاييس تلك الأيام: النصف الاول من القرن التاسع عشر، ونقارنها بالمكانة التي كان المجتمع يعطيها للنساء، مهما كن متفوقات. إذاً، جاء كتاب سانت - بوف يومها، ليعطي من خلال الربط بين سيرة النساء اللواتي درس، صورة إجمالية ودقيقة في الوقت نفسه، لما يمكن ان تكون عليه امرأة المستقبل، وتحديداً من خلال ما كانت عليه نساء زمنه المتفوقات، ونساء الأزمان السابقة. ولسنا في حاجة هنا، بالطبع، الى التركيز على الإيجابية (المطلقة أحياناً والنسبية في أحيان أخرى) التي وسم بها الكاتب سير النساء اللواتي تحدث عنهن. كما أنه كان مناصراً للمرأة في رسمه التفاصيل، وفي حديثه عن مساهمة كل منهن في التقدّم، وفي الكثير من المجالات التي اختار شهيرات سيداتها. كما أشرنا لم يتعمد سانت - بوف، أصلاً، ان يضع كتابه على شكل متكامل مكتوب دفعة واحدة، بل أنه جمع فيه دراسات كان نشرها طوال أكثر من عشر سنوات، ومنها دراسات طوّرها عن كتابات مبدئية كان ضمها الى كتابه السابق «بور - رويال»، غير انه عاد هنا، في الكتاب الجديد وأضفى عليها من الأبعاد ما جعلها في نهاية الأمر تخدم غايته الأساسية التي تنطلق من فكرة المساواة بين الجنسين، عبر تأكيد ان المرأة، حين تتمكن من ذلك، قادرة على خوض المعتركات نفسها التي يخوضها الرجال. ولكن دائماً عبر التشديد في الوقت نفسه، على ان لدى المرأة من الخصائص الطبيعية ومن السمات المميزة، ما يجعل إنجازاتها - دائماً - أكثر رسوخاً وقوة وفائدة للمجتمع، وكذلك أكثر رهافة وحساسية من انجازات رجال يساوونهن قوة وموهبة ويتمتعون بالفرص نفسها. من هنا، كان لا بد من اعتبار «صور نساء» في الاصل صرخة اجتماعية «ثورية» في معنى ما، أطلقها في ذلك الزمن كاتب يعيش ذروة مجده الفكري، ويتطلع الى التقدم الاجتماعي، حتى وإن كان بعض الخيبات قد دفعه الى شيء من الرجعية في المجال السياسي، بل ان كثراً من دارسي سانت - بوف، استشهدوا دائماً بفصول «صور نساء» كي يدفعوا عن هذا المفكر وأحد مؤسسي تيار النقد الاجتماعي في الأدب الأوروبي، ما كان يوسم به من توجه الى التراجع السياسي، لافتين الى ان مفكراً ينظر الى المرأة وإنجازاتها تلك النظرة، لا يمكن ان يكون جاداً حين ينادي باتباع سياسة متخلفة. من ناحية الأسلوب وعمق التناول الدراسي، لا يبدو ان ثمة رابطاً حقيقياً بين الدراسات المختلفة، التي تتألف منها فصول «صور نساء»، بخاصة أن من المعروف ان كل دراسة منها كتبت في مناسبة خاصة بها ووسط ظروف تختلف عن ظروف الدراسات الاخرى. ولكن قراءة واعية تكشف عن ذلك الخيط الذي يربط بين الدراسات (عدا عن كونها جميعاً تتناول نساء شهيرات)، وهذا الخيط يقوم على التوغل في حيوات النساء المدروسات بغية استخلاص الملامح السيكولوجية الغائرة عميقاً في داخل أرواحهن، والتمكن عبر ذلك من رسم ملامحهن وخفايا شخصياتهن. فمثلاً، حين يتناول سانت - بوف، شخصية «مدام دي سيفينييه» يركز، كما كان ينبغي له ان يفعل، على الجانب الأدبي الإبداعي لديها، غير أنه سرعان ما يربط أدبها بشخصيتها ويقول كم ان ما تكتبه قادر على ان يعبر عنها - هي شخصياً - من خلال بطلاتها. وعلى هذا النحو تتحول الدراسة الأدبية الى بحث سيكولوجي عن العلاقة بين الكاتب وأبطاله. وكان هذا جديداً في ذلك الحين، ومثيراً للسجال، وايضاً ل «رعب» بعض الكتاب من الذين هالهم ان يأتي من يقول ان أدبهم انما هو في نهاية الأمر تعرية لهم، غير مقصودة. وفي الدراسة التالية التي يكرسها سانت - بوف ل «مدام دي ستاييل» يجد القارئ نفسه أمام لوحة تعبيرية عارمة تكشف له في ما وراء النص الأدبي الذي ألّفته «دي ستاييل»، حساسية انثوية ثورية مفرطة، ومواقف ونظريات لم يكن سبق لذلك القارئ ان «اشتبه» بأنها يمكن ان ترتبط بحياة الكاتبة، أكثر من ارتباطها بحيوات شخصياتها. ثم تأتي الصورة التي يرسمها قلم سانت - بوف ل «مدام رولان»، فإذا بنا مرة واحدة في خضم الثورة الفرنسية وأحداثها، منظوراً اليها من خلال تلك السيدة، ولكن عبر نظرة ثاقبة فيها «اعادة اعتبار» ضمنية، من الواضح هنا انها تخص سانت بوف نفسه اكثر مما تخص «مدام رولان». ولئن كانت هذه الدراسات التي أشرنا اليها تبدو مزامنة لسانت - بوف، فإن في الكتاب دراسات عدة اخرى، تعيد القارئ الى أزمان سابقة، الى القرن السابع عشر مثلاً، اذ من خلال حكاية حب يصفها بتعاطف تام بين السيدة كرودنر والقيصر الكسندر الأول، يقول لنا سانت - بوف الكثير عن دور الحب الحقيقي في صناعة التاريخ. وهو يفعل الشيء نفسه من خلال حديثه المسهب، والجميل، عن «مدام دي لا فاييت» وعن غيرها. اذاً، في نهاية الأمر، فإن ما يحكيه لنا سانت بوف في هذا الكتاب، ليس فقط أحوال هاته النساء وأفكارهن، بل ايضاً العصور التي عشن فيها، وذلك من خلالهن ومن خلال الحديث عن تأثيرهن الإيجابي في تلك العصور. وهنا ايضاً كان ما يقدمه سانت - بوف جديداً ومفاجئاً: صورة للتاريخ المتغلب من خلال سيكولوجية نسائه. فهل كان يمكن المرأة ان تنتظر ما هو أفضل من ذلك في زمن سانت - بوف؟ بمقدار ما اسبغ سانت - بوف من الشهرة واعادة الاعتبار على «نساء كتابه» تمكنت هاته في الوقت نفسه من ان يضفن الى شهرته اضافات كثيرة. والحال ان سانت - بوف كان في ذلك الحين في حاجة، هو ايضاً، الى اعادة الاعتبار تلك. فالواقع ان شارل أوغستان سانت - بوف (1802 - 1869) الذي كان أهله قد خططوا له منذ صباه ان يدرس الطب، تخلى عن تلك الدراسة باكراً لينخرط في الحركة الرومانطيقية، ويبدأ بكتابة الشعر والقصة، ثم النقد الأدبي. وكانت تناقضاته بدأت تبرز، بين مواقف فكرية تقدمية لديه، واخرى سياسية رجعية نجمت عن خيبة أمله في ما حدث سياسياً. وأيضاً عن الدمار الذي ألحقه به غرامه بأديل هوغو. وهو في تلك الاثناء كان بدأ ينصرف كلياً الى الدراسة والنقد، حيث نعرف انه - الى جانب تين - أسس النقد الادبي الحديث. ولكن فيما كان تين يهتم بالجانب الاجتماعي، ركز سانت - بوف على الجانب السيكولوجي لدى الأدباء الذين يدرسهم. فأسس الاول لتيار نقدي تقدمي، يرى ان مهمة الكاتب التعبير عن مجتمعه، فيما أسس الثاني لتيار سيكولوجي اهتم دائماً بالأديب الذي يدرسه أكثر من اهتمامه بعلاقة أدب هذا الأديب بالمجتمع. ولقد خاض سانت - بوف السياسة والتعليم الجامعي واكتسب قراء كثراً لمقالاته التي كان ينشرها في امهات الصحف، ثم يجمعها في كتب اضحت شهيرة ومؤسسة مثل «بور - رويال» و «أحاديث الاثنين» و «أحاديث الاثنين الجديدة». وهو تعرض لهجومات شديدة، لعل ذروتها أتت لاحقاً مع مارسيل بروست الذي وضع كتاباً كاملاً عنونه ب «ضد سانت - بوف». لكن هذه حكاية اخرى بالطبع. [email protected]