تعيش اليونان ودائنوها منذ أسابيع توتراً ملحوظاً، على خلفية قرار رئيس الحكومة اليونانية أليكسيس تسيبراس، توزيع فائض الموازنة على أصحاب المعاشات التقاعدية المتدنية، وتأجيل تطبيق قانون الضريبة على القيمة المضافة على سكان جزر بحر إيجه، التي تعج باللاجئين. الأموال التي سيوزعها تسيبراس على المتقاعدين تصل إلى نحو 617 مليون يورو، وستكون معفاة من الضرائب. وسيتم توزيعها على حوالى مليون وستمائة ألف متقاعد يتقاضون راتباً تقاعدياً يقل عن 850 يورو شهرياً، من أصل مليون وسبعمائة ألف متقاعد. وسيستلم 270 ألف متقاعد من الفئة المذكورة ما بين 500 الى 830 يورو، فيما يستلم 570 ألفاً ما بين 300 إلى 500 يورو، ويستلم 750 ألف متقاعد نحو 300 يورو. إجراءات تسيبراس لم تُرضِ المتقاعدين الذين فقدوا خلال الفترة الأخيرة جزءاً مهماً من معاشاتهم، كما أنها أزعجت المعارضة. لكن رئيس الوزراء طلب التصويت العلني عليها في البرلمان اليوناني، ما أوقع المعارضين في حرج مضاعف، ففي حال صوتوا ضد الإجراءات سيظهر أمام ناخبيهم المتقاعدين أنهم معارضون لمنحهم هذا المبلغ البسيط الذي سيكون عوناً لهم في فترة الأعياد، وفي حال صوتوا مع الإجراءات فسيظهر أمام الدائنين المتوافقين معهم أنهم يؤيدون الحكومة في تصرّفها الأحادي. «الديموقراطية الجديدة»، حزب المعارضة الرئيس، وحزبا «النهر» و«رابطة الوسط»، لم تصوّت لمصلحة إجراءات تسيبراس، فيما صوّت معها 196 من أحزاب «سيريزا» وشريكه اليميني «اليونانيون الأحرار» والحزب الشيوعي و «التجمع الديموقراطي» (يسار الوسط) إضافة الى الحزب النازي «الفجر الذهبي»، وثلاثة نواب مستقلين. ولوحظ غياب عدد من النواب من جميع الأحزاب. ونسبت صحف محلية إلى رئيس الوزراء اليميني السابق كوستاندينوس كرمنليس، النائب حالياً في حزب المعارضة الرئيس «الديموقراطية الجديدة»، قوله أن الحزب يعتبر إجراءات الحكومة خطأ كبيراً ستكون له عواقب وخيمة مستقبلاً. وكان الحزب في البدايات مؤيداً لإجراءات تسيبراس، لكنه تراجع عن موقفه بعد ظهور ردود فعل من طرف الدائنين. وهاجم نواب الحزب الحكومة مدّعين أن الإجراءات رشوة حكومية للفئات التي خسرتها الحكومة بسبب إجراءاتها التقشفية، وهي مقدمة لإجراء انتخابات مبكرة. تسيبراس كان يعوّل، في ما يبدو، على لقائه الأسبوع الماضي مع المستشارة الألمانية أنغيلا مركل في برلين، لطمأنة الدائنين الذين فوجئوا بخطوته. وقد سربت مصادر حكومية يونانية عن اجتماع تسيبراس - مركل، أن الأخيرة لم تُبدِ انزعاجها من إعلان رئيس الوزراء اليوناني توزيع مساعداته الطارئة على المتقاعدين، وأنها تعي أن تلك الإجراءات لا تؤثر في الأهداف المخطط لها لموازنة اليونان للعام الحالي و2017. لكن مركل في الواقع، فضّلت ترك البت في الجواب الأوروبي عن قرارات تسيبراس إلى المؤسسات المختصة وقمم المفاوضات، ولم تبدِ رغبة في الضغط على تلك المؤسسات لإنهاء عملية التقويم الثانية التي ترغب الحكومة اليونانية في الانتهاء منها بأقصى سرعة، كما تأمل كذلك بأن يعطي تقرير المؤسسات الدائنة عن خطوات تسيبراس، الضوء الأخضر لإنهاء تجميد الإجراءات الأوروبية القصيرة الأمد تجاه اليونان. وتجنبت مركل أيضاً، إظهار أي خلافات بينها وبين وزير ماليتها فولفغانغ شويبله، حول برنامج الدَّين اليوناني. تسيبراس تابع في برلين كذلك، مؤتمر اليسار الأوروبي حيث لاقى ترحيباً واضحاً من الحاضرين الذين أعربوا عن تأييدهم خطواته الأخيرة. وكان تسيبراس شغل منصب نائب رئيس هذا التجمع. وكان خطابه في المؤتمر حدثاً مهماً، لكن وكالة «دويتشه فيلله» علقت بأنه لم يعد مؤكداً أن تسيبراس لا يزال يعبر عن آراء كل هذا الطّيف اليساري المكوّن من خمسة وعشرين حزباً. الصحافة الألمانية رأت في غالبيتها، أن تسيبراس يضرّ باليونان في شكل خطير، بسبب مطالبه من الشركاء الأوروبيين، وإجراءاته بدعم المتقاعدين وتأجيل رفع ضريبة القيمة المضافة على جزر بحر إيجه، معتبرة أنه يهدف إلى تحسين صورته المتدهورة أمام اليونانيين، لا الى دعم المتقاعدين. ولاقت إجراءات تسيبراس استغراب مسؤولين أوروبيين وتفهّم آخرين. فقد اعتبر نائب رئيس اللجنة الأوروبية، فالديس دومبروفسكيس، في مقابلة مع صحيفة «كاثيميريني» اليونانية المعارضة، أن إجراءات تسيبراس قادت المفاوضات الى حالة غير مفيدة وغير ضرورية، وقال أن الموضوع أخذ أبعاداً أكثر مما يستحق. واعتبر المسؤول الأوروبي أن توقعات صندوق النقد الدولي بالنسبة الى موازنة اليونان عامي 2015 و2016، كانت متشائمة بدرجة كبيرة، وأن الأرقام الحقيقية جاءت أفضل كثيراً. وقال: «لو استمرت الأمور على هذا المنوال وتحقّق الفائض المتوقع لهذا العام»، واستطاعت أثينا تحقيق أهدافها، فمن الممكن حينها أن يحدث تعديل في تقويم صندوق النقد وصولاً إلى خفض مطالبه. المفوض المالي بيار موسكوفيسي ورئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ومسؤول آلية الإنقاذ الأوروبية كلاوس ريغلينغ، اعتبروا أن خطوات تسيبراس لا تخلّ ببرنامج الدَين اليوناني أو تحرفه عن أهدافه. وقد تكون تصريحات هؤلاء المسؤولين الأوروبيين دعوة الى عدم تضخيم شأن خطوات الحكومة اليونانية دعماً لها ولقراراتها التي اعتبر بعض معارضيها أنها تُذكّر بروح تسيبراس الثورية التي دخل بها إلى الحكم، فيما فسرها آخرون أنها خطوات مدروسة نحو انتخابات يونانية مبكرة. وفسّر وزراء في الحكومة اليونانية دعم مسؤولين أوروبيين مثل موسكوفيسي وشولتز وغيرهما، بأن اليونان ليست وحدها في الاتحاد الأوروبي في مواجهة الدوائر المحافظة المتطرفة، وفي مقدمها وزير المال الألماني الذي اقترح تجميد الخطوات القصيرة الأمد الهادفة الى خفض الدَين اليوناني. جهاز الإنقاذ الأوروبي فضّل تجميد إجراءات تخفيف الدَين اليوناني بعد خطوة تسيبراس، بسبب اعتراض دول أوروبية على تلك الإجراءات. لكن هذه الخطوة لقيت اعتراضاً من دول أوروبية، مثل فرنسا، التي اعتبرت أنه كان يجب استشارة الدول الأعضاء قبل الإقدام عليها. وكان زير المالي الألماني فولفغانغ شويبله، المسؤول الأوروبي الوحيد الذي جاهر بمعارضته الإجراءات اليونانية، إذ اعتبر أن « في حال لم يتمّ احترام القوانين، فإن الاتحاد الأوروبي سينهار». ورداً على تصريحات تسيبراس بأن الجانب الألماني يريد أن تستمر معاناة المتقاعدين اليونانيين، اعتبر شويبله أن من غير الممكن أن تشرح للهولنديين والألمان أن من الصحيح اقتصادياً أن يدفعوا باستمرار من دون حدود لبلد آخر، مضيفاً أن التضامن يمكن تبريره عندما تكون المساعدة محدودة وتقود إلى تغيير شيءٍ ما في الاتجاه الإيجابي، وهذا ظهر في دول مثل إرلندا والبرتغال وإسبانيا وقبرص، حيث ينمو الاقتصاد بعد تطبيق البرنامج في شكل سريع جزئياً، مضيفاً أن اليونان تطبّق اليوم ثالث برنامج إنقاذ، ولولا المساعدة المقدّرة بالبلايين لكانت اليوم بلداً مفلساً ولكان المواطنون اليونانيون عانوا أكثر. ويبدو أن إجراءات تسيبراس حيّرت الأوروبيين فعلاً، حيث انتهى لقاء مجموعة العمل الأوروبي يوم الثلثاء 20 كانون الأول (ديسمبر)، من دون التوصّل إلى نتيجة في شأن تجميد الإجراءات القصيرة الأمد تجاه الدَين اليوناني. فيما طالبت اليونان بضمانات مكتوبة تشير الى أن هذا «السخاء» المفاجئ سيكون لمرة واحدة ولن يتكرر.