قبل عامين، أسهم افلاس «ليمان براذرز» في اندلاع اكبر ازمة مالية في العالم منذ الانهيار الكبير. وبُذلت مساعي كثيرة لتفادي تكرار ما حصل. ولكنها غير كافية. فعلى سبيل المثال، أقر الكونغرس الأميركي قانون دود- فرانك لتحسين تنظيم القطاع المالي، وضبط عمله. ولكن الإصلاح هذا تشوبه ثغرات. فهو، شأن جُبن ال «غرويير»، مليء بالثقوب. والتزمت الإصلاحات معايير الضبط، ولكن المصارف حملت الكونغرس على القبول باستثناءات كثيرة. ومن أبرز بنود الإصلاح انشاء مصلحة حماية المستهلك أو المتعامل المصرفي لمكافحة اساليب المؤسسات المالية المارقة. ولكن قرض السيارة، وهو يتصدر أولويات قروض معظم الأميركيين، استثني من رقابة المصلحة هذه. وخطت الرقابة على المشتقات المالية خطوات كبيرة. ولكن عدداً كبيراً من المشتقات هذه بقي خارج الرقابة. ولا تحول الإصلاحات دون فرض فائدة تعسفية على مستخدمي بطاقات الائتمان قد تبلغ قيمتها 30 في المئة، في وقت تستدين المصارف بفائدة لا تتجاوز ال0 في المئة. وأهمل الإصلاح معالجة أبرز المشكلات، وهي مشكلة «المصارف الكبيرة التي هي أكبر من أن تفلس». وعُوِّمت هذه المصارف، وسمح لها بتوزيع المكافآت من أموال المكلفين. ولم يكن أداء أوروبا افضل، على رغم انها أنجزت اصلاحات في مجالات مهمة، مثل المكافآت وصناديق المضاربة. وعلى ضفتي الأطلسي، لم يُقدم مشرّعو الضوابط على ما يبعث ثقة المراقبين فيهم. فهؤلاء الأشخاص لم يستبقوا الأزمة السابقة. ولا شيء يحدوني الى وضع ثقتي في بن برنانكي، رئيس الاحتياط الفيديرالي الأميركي. فهو لم يتوقع اندلاع الأزمة، واستخف بنتائجها حين وقعت. وضيّع أوباما فرصة المبادرة الى الإصلاح يوم كانت الأزمة في ذروتها. وهو اليوم في وضع حرج. فشأن عموم الأميركيين، ينظر أوباما مستهجناً الى تقاضي المصرفيين مكافآت باهظة القيمة، في وقت شارف معدل البطالة على بلوغ عتبة ال10 في المئة. ولكنه حين يحاول معالجة المشكلة، تندد أوساط الأعمال بسياساته، وتصفه ب «الاشتراكي»، وتتهمه ب «معاداة الأعمال». وأراد أوباما أن يكون رئيساً توافقياً يجسر هوة الانقسام السياسي الحاد الموروثة من عهد الرئيس جورج بوش. ولكن المصالحة تفترض طرفين. والجمهوريون ومصرفيو وول ستريت لا يرغبون في المصالحة. والنمو الاقتصادي ضعيف بالولاياتالمتحدة، ولا يسهم في تقليص معدلات البطالة، والتقلص رهن انبعاث النمو الى عتبة 3 في المئة، على الأقل. ولا يُتوقع أن يُبلغ مثل هذا النمو، قبل 2012. وتراجعتُ عن توقع «اختفاء» اليورو. فالاتحاد الأوروبي انتهج سلسلة إصلاح بنيوية، على غرار إنشاء صناديق تثبيت العملة. والوقت يمتحن نجاعة الإصلاح هذا الذي لم يطمئن الأسواق بَعد. فالدين ارتفع 19 نقطة قياساً على الناتج المحلي، في ارلندا. وأُسيئت ادارة عملية إنقاذ المصارف من الإفلاس، وإجراءات التقشف ترمي بثقلها على النمو، فيتبدد أثرها في تقليص العجز. ولا تملك الدول الصغيرة ترف الاختيار بين انتهاج سياسة تقشف أو تركها. ولكن حرّياً بدول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا ألا تقلص النفقات تقليصاً اعتباطياً، وأن توجهها (النفقات) الى الاستثمارات المنتجة التي تعود بالأرباح، وتسهم في تخفيض الدين العام. والسوق تفتقر الى المنطق. ومثل هذه الاستراتيجيا الاقتصادية لا تطمئنها. فمحرك السوق هو الأرقام «الخام». وإجراءات تقليص النفقات في الدول الكبيرة تبطئ حركة النمو في أوروبا. وارتكبت ألمانيا خطأين. فهي ترددت في مساعدة اليونان، واسهمت في تعاظم الأزمة. وانتهجت سياسة تقشف مؤذية وضارّة. وتتهم الولاياتالمتحدة سياسات الصين بالوقوف وراء الخلل التجاري من طريق مراكمة فائض تجاري كبير، وترك تحفيز حركة الاستهلاك. ولكن ألمانيا هي مسؤولة عن خلل تجاري اعظم. وكلتا الدولتين يرد على الاتهامات رداً يعظم فضيلة الادخار. وهذا لا يصح في وقت الأزمات. فعندما تتعثر حركة الطلب في العالم، ترتفع معدلات البطالة. والمؤسسات الدولية التقليدية عاجزة عن تذليل المشكلة الناجمة عن ضبط حكومات «محلية» الاقتصاد العالمي. والمسألة معقدة ومركبة. ومن يريد إبقاء الأمور على حالها ينادي ب «حل المشكلة حلاً عالمياً». وأدرك عدد كبير من الاقتصاديين أن أولويات الدولة تفترض حماية مواطنيها. وما يترتب على المسؤولية هذه هو اجراءات اقتصادية «وطنية» وغير دولية. ويبدو أن تنسيق تنظيم عمل الأسواق لن يبقى على حاله، وأن التفاوت في التنظيم من غير تنسيق سيتعاظم. فالأسواق المندمجة تواجه مخاطر كبيرة. فعدوى مصاب الواحدة منها تنتقل الى الأسواق الأخرى انتقالاً سريعاً. وكادت الأمراض التي اصابت الأسواق المالية الأميركية أن تطيح الاقتصاد العالمي كله. وعليه، تبرز الحاجة الى انظمة وقاية تسمح بعزل مؤسسة أو سوق مصابة ووضعها في محجر صحي. واقترحت انشاء مجلس تنسيق اقتصادي عالمي لتنسيق السياسات الاقتصادية والإجراءات المالية. فمجموعة دول العشرين تمثل الدول الغنية وحدها. وفي وسع كل قارة انتداب ممثل لها الى المجلس يدافع عن مصالحها. ودعوت الى ابتكار عملة دولية جديدة تستخدم في مشاريع تخدم مصلحة عالمية عامة، مثل مكافحة الاحتباس الحراري ومساعدة الدول الفقيرة. فمفارقة القرن الواحد والعشرين هي أن الدولار، وهو عملة وطنية محلية، يؤدي دور الاحتياطي العالمي. ومع الأزمة، وتبدد الثقة في القيادة الأميركية السياسية والاقتصادية، بدا ان عجلة النظام الراهن لا تدور. فالنظام هذا غير منصف، ويسهم في اختلال الاقتصاد العالمي. والمصارف الخاصة لا تؤدي عملها على احسن وجه. وشغلها الشاغل هو أعمال المضاربة، عوض إقراض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وأُنفقت بلايين الدولارات على إنقاذ المصارف الكبيرة على شرط اضطلاعها بدعم الاقتصاد، ولكنها لم تفعل. ولذا تبرز الحاجة الى إنشاء مصارف عامة. وتعاظم هوة التفاوت أسهم في اندلاع الأزمة. ففي العقود الثلاثة الماضية، تعاظمت الفروق الاجتماعية في الدول المتقدمة، خصوصاً في الولاياتالمتحدة. وعوض معالجة المشكلة هذه، دُعي الناس الى الاستدانة من غير احتساب النتائج. وفي الأزمة الأخيرة، تبدد الثراء الوهمي جراء انفجار فقاعة القروض. وفاقمت اجراءات معالجة الأزمة الأخيرة في الولاياتالمتحدة مشكلة اللامساواة. فأكثر المتضررين من عصر النفقات هم الفقراء والطبقات غير الميسورة. وحريّ بالولاياتالمتحدة الغاء قانون اعفاء الأثرياء من الضرائب، وانتهاج سياسة الضرائب الموجهة. فتمنح حوافز ضريبية الى الشركات التي تسهم في الاستثمار. * حائز جائزة نوبل للاقتصاد، عن «لكسبريس» الفرنسية، 22/9/2010، اعداد منال نحاس