أولريكه فرايتاج مديرة مركز الشرق الحديث في العاصمة الألمانية برلين، يقع مركزها في مبنى أثري أنيق، عمره حوالى 100 عام، بعيداً عن وسط العاصمة، بالقرب من بحيرة «فان سيزه»، وحوله الكثير من الخضرة والغابات، وعلى رغم هذه الرومانسية، تجد في الداخل خلية نحل من الباحثين المشتغلين بقضايا الشرق، ليس من أجل تقديم تقارير لجهات حكومية، أو مشورة للمسؤولين، بل هم يعملون جميعاً من أجل البحث العلمي، ولا شيء سوى البحث العلمي. دقيقة في كل لفظ تستخدمه، تفصّل النقطة التي تتناولها، بحيث لا يكون هناك أي لبس في فهم وجهة نظرها، كتبت بحث الدكتوراه عن سورية، وبحث الأستاذية عن حضرموت، وساقتها الأقدار إلى جدة، وعندها الآراء نفسها المسبقة عن المملكة، فأحبت المدينة وأحبت الناس، وقامت علاقة وطيدة بينها وبينهم، تدين لهم بمساعدتها في أبحاثها، وتدافع عن المدينة القديمة في جدة، المدينة المنفتحة على الكون، ولكنها ترى أن أهل المدينة هم أصحاب القرار في الحفاظ على المدينة القديمة من عدمه، وأن أهل جدة أدرى بشعابها، وتؤمن بأن التغيير يحتاج إلى تدرج، وتوقن بأن الملك عبدالله يمسك بزمام الأمور في يده، ولكنه يحرص على مراعاة توجهات شعبه، وكافة الموازين في المملكة. من الناحية الشخصية... ما سر اهتمامك بالعالم العربي أو بالتاريخ العربي؟ - لو تحدثت من ناحية شخصية، فإن الأمر حتماً كان بمحض الصدفة، عندما كنت في المرحلة الثانوية، كان هدفي في الحياة أن أكون صحافية، فقال لي صحافي مشهور في ذاك الوقت، ينبغي على الصحافي أن يعرف أشياء لا يعرفها كل شخص، واقترح أن أدرس اللغات الأجنبية، اقترح منها الصينية والعربية والروسية أو الإسبانية، ففكرت في أن الصينية واليابانية لغتان معقدتان، ولم يكن لي أي صلة، أو فكرة عن شرق آسيا أيضاً، أما بالنسبة إلى الروسية، فعندنا كثير من الروس الألمان، وهو ما لا يجعل الشخص المتقن للروسية فريداً، والإسبانية في ذلك الوقت، كان من السهل تعلمها. ولذلك قلت لو أخذت الوقت وتعمقت في اللغة العربية، فإن ذلك سيكون شيئاً جيداً، ثم أصبحت أهتم بالتاريخ، وأصبح هناك مزج أو توفيق بين الاثنين، (دراسة اللغة العربية والتاريخ بعمق)، فأنا مؤرخة، أكثر من كوني متخصصة في الفكر الإسلامي، والذي لفت نظري للشرق الأوسط، أو للعالم العربي، هو التاريخ العربي أكثر ربما من الفكر الإسلامي، والذي طبعاً درسته أيضاً، واحترمه جداً. وبما أن مهنتي هي التاريخ فكان بصراحة التاريخ الإسلامي والعربي هو ما لفت نظري للمنطقة، وهناك نقطة مهمة هي أن أوروبا تعتقد دائماً أن العولمة جاءت من الغرب، بينما لو نظرنا إلى التاريخ، نرى أنه كانت هناك موجات من العولمة، انطلق بعضها من الشرق الأوسط. دراستك للحضارة الإسلامية... ماذا كنتِ تنوين أن تثبتي للعالم من خلالها؟ - ما أردته من الدراسة، هو أن أتعلم، ولم أرد أن أثبت أي شيء. والآن ما أريده من دراساتي أن أتعمق في قضايا غير معلومة عند الكثير من المؤرخين، وأريد من خلال عملي الأكاديمي أن أنبه الطلاب بصورة خاصة في دراستهم للتاريخ، إلى حقيقة مهمة، وهي أنه يتبين لنا من دراسة التاريخ أن الشعوب لا تختلف فقط من خلال أن يكون شعب ما مثلاً مسلماً، والثاني مسيحياً أو يهودياً أو هندوسياً، بل نجد أن هناك ظواهر متشابهة في كل العالم، وبين مختلف الشعوب. هذا من ناحية، من ناحية ثانية، طبعاً يهمني أن ألفت النظر، إلى أن هناك مفاهيم، ليست فقط مفاهيم أوروبية، مثلاً مفهوم التعددية الإثنية والثقافية (الكوزموبليتانية)، فحتى ولو لم يكن هناك مصطلح عربي مقابل، بحيث يتم ترجمة هذا المصطلح بسهولة، إلا أن ذلك المفهوم موجود مثلاً في مدينة جدة، كما كان موجوداً في مدينة مارسيليا في الماضي، وليس مثل اليوم، فهذا يوضح أنه توجد في العالم الإسلامي مفاهيم نظن في أوروبا أنها موجودة فقط في العالم الأوروبي أو المسيحي. التأمل والإبحار في التاريخ... هل يوحّدان الحضارات ويجعلانها تتصافح؟ - أعتقد أنه من الممكن أن يقرأ المرء التاريخ بهذه الطريقة، وممكن أيضاً أن يقرأ المرء التاريخ من منظور التفرقة، إذا فكرنا في دراسات صموئيل هانتنجتون، وهو مهتم بالخلافات بين الحضارات، أي أن الأمر يعتمد على الشخص الذي يقرأ التاريخ، ويكتب عنه. هل طريقة كتابة التاريخ في الغرب أكثر نقداً من كتابته في العالم العربي؟ - أعتقد بأن من بين الأسباب أن الدول القومية والوطنية في العالم العربي أحدث من الدول القومية في الغرب، ومعنى ذلك أنه ربما تكون كتابة التاريخ في هذه المرحلة مسيسة أكثر مما عليه الحال حالياً في أوروبا، لكن طبعاً هناك مسألة ثانية وهي أنه حتماً هناك نظم سياسية تسمح بالموضوعية أكثر من نظم أخرى. وأعتقد أيضا بأن سيطرة الوزارات على التعليم في المدارس، ربما يكون لها تأثير في موضوع تناول التاريخ، ولا يقتصر هذا الأمر على العالم العربي، ففي أوروبا أيضاً هناك تأثير لوزارات التربية، وأحياناً يستغرب المرء من وجود قصور في تناول التاريخ في بعض الكتب المدرسية، بخاصة في مسألة فلسطين وإسرائيل، ولكن أعتقد بأن هذا التأثير أقل بكثير من التأثير في كثير من البلدان العربية. هل ترين في مراكز القرار قدرة على قراءة التاريخ كما يجب وقدرة على استلهام دروس الماضي لأجل حاضر ومستقبل زاهر؟ - والله لا أعرف ما إذا كان الناس كل الناس، وليس فقط السياسيين مستعدين ليتعلموا من التاريخ، أعتقد بأن هناك مبالغة في تقدير تأثير التاريخ، وأن المرء يستطيع أن يأخذ دروساً وعبراً من الماضي، ولكن غالباً ما لا يفعل الناس ذلك، بسبب تغير الأوضاع السياسية، وأيضا لأن المرء ينظر دوماً للتاريخ من وجهة نظره واهتماماته وربماً انطلاقاً من مصالحه. المفكر الأوروبي والإسلام هل يخاف المفكر الأوروبي من انتشار الإسلام في أوروبا؟ - هذا يعتمد على المفكر نفسه ومسألة الدين سواء تعلق الأمر بالإسلام أم المسيحية أم اليهودية، ليست مهمة، بل المهم هو أن يقوم الأشخاص الذين يعيشون في بلد من البلدان، باحترام قوانين هذا البلد، ومن يحترمها ويتأقلم مع المجتمع، فأهلاً وسهلاً به. أي أن الأمر يتعلق بالمفكر الذي تتكلم معه. وكيف تعاملت أوروبا مع المسلمين بعد أحداث 11/9؟ - في الغرب ازداد الخوف من المسلمين، وهذه من العوامل التي تسببت في الرؤية السلبية إلى المساجد، والخوف منها، أعتقد أنه في الماضي لم تكن غالبية الناس تشعر بذلك الخوف، وهو ما تغير الآن. دور الإسلام في الحياة والحكم... هل لا بد من تأطيره؟ - كل شعب لا بد من أن يقرر بنفسه، أنا بالنسبة لي شخصياً في ألمانيا مثلاً، أقول أنا ضد تطبيق القانون الديني سواء كان إسلامياً أو يهودياً أو مسيحياً، أنا كشخص وكإنسان، أنا علمانية، ولكن إذا كنا في دولة مثل السعودية أو أفغانستان، وغالبية الشعب متدينون، ويريدون القانون الإسلامي، فليكن لهم ذلك. أعتقد بأنه من المهم أن تكون أسس القوانين، وأسس القواعد المعمول بها واضحة. فمثلاً في السعودية كان هناك نقاش قبل مدة عن إيجاد نوع من التدوين للشرعية، من أجل أن ينتهي الاختلاف في أحكام القضاة في المحاكم المختلفة، وأعتقد أن ذلك شيء مهم، أن يعرف الإنسان تفسير القانون، بغض النظر عن مصادر هذا القانون، في القانون العلماني هناك أسس يجب اتباعها، هذا ما أراه مهماً. ولكن ذلك لا يتعلق بتأثير الدين، كدين. ولكن من جانب آخر عندما تقوم دولة ما بالتوقيع على اتفاقات دولية، فإن هذه الاتفاقات تفرض التزامات معينة على الموقعين عليها، وعلى الدول أن تطبق مضمون الاتفاقات التي صادقت عليها، وهذا أيضاً من القيود الموجودة في النظام العالمي. أما إذا كانت غالبية السعوديين أو غيرهم لا يريدون ذلك، فتلك قضيتهم. الفتوى الإسلامية وتدخُّل رجال الدين... هل يفسدان الحلول العالمية؟ - كيف تؤثر الفتوى الإسلامية في الحلول العالمية؟ ما يؤثر عليها هي أفعال، ولا أعتقد بأن أسامة بن لادن يعتبر من أصحاب الفتوى، حتى من الناحية الشرعية، إذ ليس لديه من الإجازات اللازمة حتى يتكلم باسم الدين، هناك كثير من الناس يستخدمون الدين لأهداف سياسية مختلفة، ليست كلها بطريقة أسامة بن لادن، فهناك أناس يأخذون الاتجاه المناقض تماماً. أما بالنسبة للحلول العالمية، فإنه يتم التوصل إليها بين الحكومات، وليس بين رجال الدين. ولكن لرجال الدين دور في حياتنا... أليس كذلك؟ - نعم، صحيح، لرجال الدين دور، وللسياسيين دور، وللأدباء أيضاً دور. ولكن رجال الدين يلعبون دوراً حاسماً، في مسائل كثيرة تخص المجتمع المحلي؟ - هذا صحيح، ولكن هذا لا يتعلق بالحلول العالمية، بل بالقضايا المحلية، وعندها يأتي صحافي لينتقد رجال الدين. ولذلك فهم لا يؤثرون بصورة جذرية على الحلول العالمية، هم صوت من بين أصوات كثيرة ومتنوعة جداً، موجودة على المسرح العالمي. خذ مثلاً سلمان العودة أصبح الآن الشخص الذي يمثل الصوت العقلاني الحديث في السعودية وهناك الكثير من المؤشرات تؤيد ذلك فهو يتبنى موقف الاعتدال والتوافق وينتقد الوضع الراهن للمجتمع السعودي، المتمثل في التمسك بالعادات والتقاليد، والانتقاص من حق المرأة والنظرة الدونية لها، ويطالب بمنح الشريحة النسائية في المجتمع الحقوق التي يمنحها لها الدين الإسلامي. الوقوف في المنطقة الوسط بين الإسلام والغرب... هل يكلفك الكثير؟ - لا يكلفني أي شيء، في العالم الإسلامي يظن البعض أني مستشرقة، وأني أريد أن أسيء للبلاد العربية أو الإسلامية، وهنا يظن الكثير من الناس أنني أرتضي كل ما يقوم به أي مسلم، وأنني حالمة ولا أرى إلا الإيجابيات وأنني أبرر كل ما يقوم به المسلمون. ولكن هذا من ضمن النقاش السياسي، لا بد من وجود هذا الجدال، عندما يتبنى المرء آراء مختلفة تماماً عن الرأي السائد، مثلما حدث حين عدت مع الطلاب من الرحلة إلى المملكة، وتحدثنا في مناسبة (ليلة العلم)، وتحدث الطلاب بأنفسهم، ومن دون اتفاق مسبق عما سيقولونه. وفي المناقشة قال الكثير من الحاضرين: «أنتم ترون كل شيء بعدسة وردية»، ولكن هذا رأيهم، وآخرون يقولون: «كيف تكتبون عن المملكة، ولم تعيشوا هناك 10 سنوات، ولستم مسلمون؟» وهذا رأيهم أيضاً، هذا دائماً يحدث، ولا يضايقني. جدة والإحباط ألا يصيبك الإحباط عندما تدافعين عن أشخاص، ثم يأتي من تدافعين عنهم ليتهمونك في صدقيتك، ويقولون لك إنك ذات وجهين، وتتحدثين معنا بغير الوجه الذي تستخدميه في الحديث بين قومك؟ - انظر، ليس لنا وجهان فقط، بل أوجه كثيرة، نتحدث في كل مكان بأسلوب مختلف، فمثلاً حينما يسألني الناس في السعودية أو في مصر عن مقتل المصرية مروة الشربيني في مدينة دريسدن في العام الماضي، أقول لهم إن تلك جريمة وأمر شنيع، ولكن ليس هذا ما يعيشه المسلمون يوماً وراء يوم في ألمانيا. ولكن عندما أتحدث في داخل ألمانيا، أكون أكثر حدةً ونقداً، لأنه ما من شك أن هناك عداءً للأجانب، وفي مناطق معينة، تكون هذه العدوانية أكثر من مناطق أخرى، وبصورة أوضح، ربما تكون موجودة في كل مكان بالطريقة نفسها ، لا أعرف بدقة، لأنني لم أمر بتجربة العيش كمسلمة في هذا المجتمع. طبعاً يمكن أن أصاب بالإحباط، ولكن دعني أعطيك مثالاً، لقد قمت بالمشاركة في تنظيم ورشتي عمل عن المدينة القديمة في جدة، حتى يتم الحفاظ عليها، لأنه من غير المقبول ما يفعله البعض بها، وأرى ضرورة الحفاظ عليها، لا أن تتحول إلى مراكز تجارية ضخمة، ولكن في نهاية الأمر، على رغم أني أحب هذه المدينة، وأحب الناس الذين يعيشون فيها، لكنها ليست مدينتي، وإذا قرر سكانها أن ما أنادي به هو مجرد ثمرة مخيلة أجنبية، فهذا قرارهم، وهذه بلادهم. على المرء أن يبذل جهده، وسيكون هناك دوماً أناس لا يعجبهم ذلك، سواء تعلق الأمر بالغرب أم بالعالم الإسلامي، ولكن هناك الكثيرون ممن يؤيدون ذلك، وهذا هو الأمر الإيجابي. كيف تقرئين الاختلاف بين نماذج الدول الإسلامية تركيا والسعودية وتونس مثلاً؟ - هناك اختلافات كثيرة، بعضها جاء من قرار الدولة السعودية مثلاً أن يكون نظامها الأساسي مبنياً على أسس دينية، أما دولة تونس فقررت أن يكون قانونها الأساسي علمانياً، وهناك اختلافات أخرى كثيرة مصدرها التاريخ، مثلاً كانت غالبية مناطق الدولة السعودية غير تابعة للدولة العثمانية، باستثناء الحجاز، بينما تونس كانت أولاً تابعة للدولة العثمانية، ثم خضعت للسيطرة الفرنسية، وكان لذلك تأثيره طبعاً، ثم دور القبائل في المجتمعين، الذي يختلف تماماً. ففي تونس هناك فرق بين العرب والبرابرة، وإن كان ذلك بصورة أقل مما عليه الحال في كل من الجزائر والمغرب، أما في السعودية، فالأمر مختلف تماما، لأن كل سكانها عرب، وهناك عوامل كثيرة جداً، أوجدت هذه الاختلافات التاريخية، والعالم العربي في صورةٍ منقسمةٍ غير متناغمة. فالدول العربية، منقسمة على نفسها منذ الاستقلال، وأكبر دليل على انقسامها، دساتيرها المتضاربة المتناقضة، وتأرجحها المستمر بين الدستور السعودي «الإسلامي» ونظيره التونسي «العلماني. إن الدول العربية مختلفة فيما بينها حول دور الإسلام في الحياة والحكم، وقد تنعكس تلك الاختلافات في الدساتير والقوانين والتشريعات، وهو ما يبرهن على وجود فروقاتٍ فاصلة بين المواقف التشريعية العربية في مجال قوانين الأسرة، على سبيل المثال. ولا يغيب الموقف الحرِج الذي يحيط بإسلاميي الدول العربية؛ فهم من ناحية يقفون عاجزين أمام الحكومات العربية المتسلطة والمُصرة على رفض مطالبهم، ومن ناحيةٍ أخرى، يقفون مكتوفي الأيدي أمام تزايد وطأة أزمة التنمية، وهو ما يقلل من جاذبيتهم في وسط الجماهير المسلمة .ويكمن الحل، من وجهة نظري في الليبرالية السياسية، وهي «كلمة السر» التي باتت - في نظري - الحل الجاهز الوافد من الغرب ليحل إشكاليات الشرق. المشروع السعودي بم استفزك لتجعليه تحت مجهر بحثك؟ - بصراحة جرى ذلك مصادفة، في البداية كان عندي بحث عن الحضارمة، وهم من فرض عليّ زيارة السعودية، من أجل البحث التاريخي، توجهت إلى هناك وما كنت أتوقع الكثير، كان عندي الأحكام المسبقة نفسها الموجودة لدى كل من لم يسافر إلى هناك، أي دولة غنية جداً، ومغلقة جداً أمام الأجانب، حتى ولو كانوا عربا، فما توقعت أن أجد المساعدة، أو أي شيء آخر. واستغربت وتعجبت جداً، لأني بقيت هناك عشرة أيام فقط، في جدة، ولكن نتائج البحث كانت أكثر بكثير مما تحقق خلال شهرين في حضرموت، بفضل مساعدة أشخاص، التقيتهم في غاية الأدب، مثقفين، وفهموا طبيعة البحث العلمي، وساعدوني كثيراً بصراحة، أتوا بالمراجع الكثيرة من مكة، لعدم إمكانية أن أسافر إلى هناك، ومعهم كراتين ومخطوطات ووثائق، وشرحوا لي ما هذه الوثائق، هذا من ناحية وتوصلت إلى أن البحث العملي هناك أسهل بكثير من العديد من المناطق التي كانت مفتوحة آنذاك أمام الباحثين الغربيين. ومن ناحية أخرى أحببت مدينة جدة، ولم أجد كتباً كثيرة عنها، وعندما دعيت بعد هذه الزيارة بخمس سنوات، إلى المملكة، وقالوا لي أنه من الممكن أن تقدمي طلباً للحصول على تأشيرة بحث، وبعدها ذهبت مرتين بسبب موضوع جدة، ثم سمعت أن هناك فرصة عن طريق وزارة التعليم العالي لزيارة المملكة مع عدد من الطلاب، وهذه فرصة نادرة جداً، وطلابي يعرفون مصر وسورية واليمن، وربما تونس، فقلت زيارة المملكة شيء مهم للغاية، حتى يتعرفوا على بلد جديد، وربما يندهشون كما فعلت من قبل، وهو ما حدث فعلاً. متى كانت زيارتك الأولى للمملكة؟ - كانت أول زيارة لي عام 2000، ولولا إعجاب الطلاب بالمملكة، لما قاموا بأبحاثهم لتأليف هذا الكتاب. التغيير في السعودية التغيير في السعودية... هل تجدين في خطاه بطئاً أم ترينها لثبات أكثر؟ - ربما يبدو بطيئاً، ولكن لا بد من التفكير في المجتمع، وإذا كان المجتمع محافظاً، فإنه ربما لا يستفيد من التغيير السريع جداً، ورأينا في الكثير من البلدان الأجنبية والعربية أن التغيرات السريعة جداً، ربما أحياناً تؤدي إلى نتائج عكسية، وهذا التغيير يسير بسرعات متباينة من مجال إلى آخر. هناك شيء ما يحدث في المملكة العربية السعودية، على الأقل على الورق، أو هذا على أي حال ما ترجحه النقاشات الدائرة في الصفحات الأدبية السعودية منذ حين. ونتوصل إلى أنه «لا خلاف على حدوث بعض التغير الثقافي في السعودية، والرواية السعودية وحدها تمثل علامة واضحة لهذا الانفتاح، إلا أنه ليس من الواضح ما مدى استمرارية التحولات الراهنة، ولا حجم قطاع الشعب الذي يلاحظ هذه التغيرات. وأنبه إلى أن الكتاب الديني ما زال يحتل الصدارة بجدارة، وأضرب على ذلك مثلاً بالنجاح الذي حققته رواية (بنات الرياض)، لكنه لا يقارب بأي حال من الانتشار الهائل لكتاب (لا تحزن) لعائض القرني، وأقول أن الانفتاح الأدبي لا يمكن وقفه بسهولة، ناهيك عن استحالة العودة به إلى الوراء. هل ترين استراتيجية متكاملة ورؤية شاملة للتغيير في المملكة؟ - الملك عبدالله عنده رؤية شاملة، ووجد في التطورات المشحونة بالأزمات السياسية داخلياً وخارجياً منذ 2001 (أحداث 11 من سبتمبر) فرصة لإنجاز مشاريعه الإصلاحية. وإجمالاً يمكن القول إن مناخ التغيير ما زال مستمراً في المملكة، ولذلك فإن الاحتمال قائم بأن يبقى هذا المناخ، ويمكن أن يلعب الحوار الوطني دوراً مهماً في هذا المجال. كيف ترين المرأة السعودية، بخاصة أن بعضهن يتزعمن رفض أي إصلاحات؟ - هناك توجهات مختلفة، ومتضادة من أقصى التدين إلى العلمانية، وهناك سعوديات مثقفات جداً، وهناك من درست في الولاياتالمتحدة، وهناك من لم تخرج إلى المدرسة الأولية، ولكن في ألمانيا أيضاً هناك اختلافات كبيرة، بين النساء، كما حدث عند تنظيم الأسرة لأول مرة، حتى الآن هناك نسوة في ألمانيا يرفضن عمل المرأة، وفي دولة محافظة كالمملكة، حيث كان هناك إجماع على عدم خروج المرأة إلى العلن، فإنه من الطبيعي أن توجد مثل هذه الاختلافات، وتكون هناك حدة في النقاش. الدولة الحديثة... كيف تنتصر على الإرث القديم؟ - هل لا بد من أن «تنتصر» الدولة على الإرث القديم؟ الأمر ليس معركة، وأنا أعتقد بأن مسألة التغير، تقتضي الاعتراف بالقديم والاعتراف بالحديث، ولا أعتقد بأنهما متناقضان بهذا الشكل. وأنا أستغرب ما لاحظته في السعودية، بصورة أكبر من مصر وسورية، وهو أن قبول الحديث يتماشى أحياناً مع الرفض التام للقديم، وهذا الأمر موجود عندنا أيضاً في ألمانيا، فاهتمامنا مثلاً بالمدن القديمة وبالحفاظ على هذا التراث المعماري، وهو ما حدث في السبعينات، وما تبقى من مدن قديمة عندنا، لم يتعرض للدمار، بسبب عدم وجود الوسائل اللازمة لتدبيره، هناك مدن قديمة، لم تتعرض للقصف في الحرب العالية الثانية، ولكن جرى إزالتها بسبب الرغبة في بناء مبان جديدة، وفي مناطق أخرى لم تتوافر هذه الأموال، ولذلك بقيت هذه المدن. ولذلك أنا أتفهم ما يطالب به البعض في جدة من إزالة المدينة القديمة، وبناء مراكز تجارية، وربما ننظر للأمر بعد 20 عاماً بصورة مختلفة. وصف المعهد الذي تنمين إليه بأنه جسر للتواصل بين الشرق بالغرب وأحد العوامل الرئيسية للتعايش السلمي بين الإسلام والمسيحية... ما مدى نجاح هذا الجسر حتى الآن؟ - أعتقد بأن في ذلك مبالغة، ولكننا نبذل جهدنا قدر الإمكان، والصحيح أننا نثير بعض المواضيع، فمثلاً حين قمنا بنشر «المملكة في تغير»، وجهنا الدعوة إلى ندوة لتقديمه، في مكان بوسط المدينة، وهذا ليس فقط للتعريف بالكتاب، ولكن ربما لإثارة بعض المواضيع عن الثقافة في السعودية، مثل تطور الأدب في السعودية ومواضيع أخرى لا تجرى مناقشتها بالنسبة للمملكة، ومثلاً عندما تكون هناك أفلام من الهند أو المغرب، فإنها تفتح بعض النوافذ، هناك مواضيع معينة لا يجرى تناولها في الخطاب العام، ولذلك نسعى لطرحها في الخطاب العام، حتى لا ينظر الجمهور الأوروبي إلى العالم الخارجي، فقط من منظور السياسة الخارجية، والسياسة الاقتصادية. يعيب البعض عليكم كباحثين غربيين استخدام المنهج « التفريقي» في وصف الإسلام والمسلمين، وهو منهج يُفرق ويُقسم بين أنواعٍ مختلفة من الإسلام، فينتج عن ذلك نشوء العشرات من أنواع الإسلام؛ يتضارب بعضها بعضاً، كيف تقرئين هذه النظرة عنكم؟ - إذا درس المرء المذاهب الإسلامية، فإنه يدرسها على أساس المصادر الناشئة عن هذه المذهب، لا نتخيل مذاهب إسلامية، لسنا نحن من يقرر وجود مذاهب إسلامية، أو إسلام واحد أو خمسة أو عشرة. ليس من عملنا تخيل المذاهب، أو الإسلامات - إذا جاز التعبير - أو التفرقة في الدين، هناك مستشرقون يدرسون المذاهب الإسلامية، وهم يدرسونها على أساس المصادر الناشئة عن الشيعة أو السنة أو المذهب الحنفي، والشافعي...إلخ، بالنسبة لي لا أرى دوري التفرقة أو التوحيد، هذا أتركه للمسلمين. لماذا تتمتع ألمانيا بصورة إيجابية في العالم العربي، على رغم حدوث الكثير من التصرفات التي كان من المفروض أن تؤدي إلى عكس ذلك؟ - ربما هناك أسباب جيدة وأخرى غير جيدة، ربما من الأسباب نوعية الصناعات الألمانية، والنظام والانضباط، وهذه الأمور، وهي جيدة، ولكن هناك أسباب غير جيدة، لأن بعض العرب ما زال يعتقد بأن هتلر شخص جيد، وأن ما عمله مع اليهود شيء جيد، وهو ما أعتبره من الأسباب غير الجيدة.