انتصرت أميركا في العراق، بل حقّقت مجموعة من الانتصارات، بالمعنى الاستراتيجي. لا يدور الكلام على السياسة. في السياسة، يجدر رمي الجملة السابقة بكل حجر. لا يعني انتصار دولة عظمى على بلد عالمثالثي في القرن 21، سوى الاحتلال والعودة الى منطق القوة المتجبرة والاستعمارية، بل منطق الامبراطورية التي تتناقض مع معطيات الحضارة الإنسانية وتطوّرها. لا مسوغ للإحتلال. على نقيض ذلك، يفرض الاحتلال على الشعوب مقاومته، كي تكون جديرة بالحياة. لكن الأمر يدور حول الاستراتيجية، وليس حول الاحتلال. هناك كثير من الدروس الاستراتيجية التي يمكن استخلاصها من تجربة احتلال العراق، وصولاً الى وضعه الراهن، الذي يصعب أيضاً وصفه بكلمات الحرية. ولا يستطيع مقال مفرد استخلاص هذه الدروس الاستراتيجية، لذا يحاول المقال إلقاء الضوء على احدى المعطيات الاستراتيجية في هذه الحرب، وخلاصتها ان انتصار أميركا فيه كان نموذجاً عن "الواقع الفائق" Hyper Reality الذي أصبح أمراً فعلياً تعيشه الجيوش الحديثة. ولا بد من الإقرار بانتصار أميركا في العراق، كي يصار الى الحديث عن هذا المعطى الحديث في الحروب المعاصرة، الذي برزت إرهاصاته الأولى في حرب البلقان عند مطلع القرن الجاري. قوة "الواقع الفائق" مجدداً، انتصرت أميركا في العراق. يجدر تذكر ذلك جيداً، بعد انسحاب قواتها المقاتلة من بلاد الرافدين، وبقاء قوات ضخمة، قوامها الأساسي من المشاة. ليس خمسون ألفاً بالعدد الصغير، خصوصاً عندما يكون هؤلاء مجهزين بمستويات تقنية عالية، كما تدعمهم نظم استراتيجية ضخمة تمتد من الأقمار الاصطناعية في الفضاء الى الغواصات التي تحمل الصورايخ الاستراتيجية في أعماق البحار. عند الحديث عن الدول، يجدر عدم الاستسهال في الكلام. عن أي إنتصار يدور الكلام، بعد أن ضربت تلك القوة العظمى، في احدى أقوى النماذج عن الصراعات اللامتوازية Asymmetric conflicts، في عالم ما بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، الى حدّ "إجبارها" على الانسحاب؟ لنبدأ بالأبسط. استطاعت الولاياتالمتحدة ان تحتل العراق بسهولة كبيرة. في أيام معدودة، استطاعت القوة العسكرية المباشرة، ان تتقدّم بمشاتها ودروعها ومروحياتها، لتدخل بغداد. بالمصطلحات الاستراتيجية، شكّل ذلك نموذجاً واضحاً عن قدرة التقرّب غير المباشر على التمهيد لإنتصار عسكري سهل وغير مُكلف. (حسناً، لقد تحوّل لاحقاً إلى إنتصار باهظ الثمن، بأثر من صراع لامتكافئ وحديث، ولكنه شيء آخر). ماذا يعني التقرّب غير المباشر؟ بداية، تشمل الاستراتيجية كافة معطيات القوة التي يمتلكها طرف ما، مثل الاقتصاد والاعلام العام والتقدم العلمي والبنية الاجتماعية (مع مُكوّنات متصلة بالعناصر السابقة مثل التقدّم في المواصلات والإتصالات والتقنية، والتطوّر في وسائل التأثير ثقافياً وإعلامياً) والعلاقات مع الدول الاخرى، ومدى الوصول الى الموارد الأساسية، والقدرة على التأثير على الإرادات العامة داخلياً وخارجياً من دون استخدام القوة ولا الإرغام (يُسمى ذلك أحياناً "القوة الناعمة") وما يشبهها. يشكّل المجموع المتحرّك لتلك الأشياء عمق الاستراتيجية. لا بد من القول بأن السياسة هي رأس الاستراتيجية، لأنها تتولى صنع العناصر السابقة، كما تصوغ النسيج الذي يربط بينها، إضافة الى أنها تتولى تحريكها. يشكّل تحريك القوى الأساسية للاستراتيجية تقرّباً استراتيجياً غير مباشراً. وكذلك يطلق وصف التقرّب غير المباشر على طريقة تحرّك القوى العسكرية، قبل خوضها الصراع المسلح مباشرة. في العراق، تحرّكت المُكوّنات الاستراتيجية قبل الحرب، فضعضت نظام صدام حسين الى حدّ الإنهاك. شكّل ذلك انتصاراً للتحرّك الاستراتيجي، على رغم ان بعض هذه المُكوّنات غير أخلاقي كلياً، مثل الحصار الذي ضرب الشعب العراقي أكثر مما أصاب القوة العسكرية لنظام صدام. (يعطي ذلك مثالاً عن إنحطاط حضاري في العلاقات الدولية، حين تصبح مسألة وضع شعب بأسره في حال حصار، مبررة بمعطيات السياسة والنفوذ). شمل التقرّب غير المباشر، توظيف النفوذ الأميركي في الجوار الجغرافي والسياسي لعراق صدام حسين، خصوصاً محيطه العربي. وشمل التقرّب غير المباشر، زعزعة النظام من الداخل، كما يظهر بجلاء في الحال التي عاشتها كردستان العراق قبيل الحرب. لا داعي للقول ان هذا الكلام لا شأن له في السياسة، وأن طريقة تعامل حزب البعث مع المسألة الكردية هي مأساة دامية يطول الحديث عنها، ويصعب التغافل عن مدى طغيانها ودمويتها في التعامل مع أكراد العراق. مجدداً، إنه كلام عن الاستراتيجيا وليس السياسة. في هذا المعنى، مثّل حال كردستان العراق نموذجاً عن تقرّب غير مباشر قوي. وسرعان ما تحوّل التقرّب غير المباشر الى عمل عسكري مباشر بمحاور متعددة. ساهم الكرد في دعم قوات الولاياتالمتحدة مباشرة، وعلى امتداد خرج من المدى الجغرافي لكردستان. واحتضن الإقليم الشمالي القوات الأميركية ونُظُمها الأمنية المتعددة، وشكّل قاعدة آمنة لعملياتها العسكرية المباشرة. وصيغت توازنات متنوّعة استناداً من قوة النفوذ الأميركي في كردستان، خصوصاً مع القوتين الإقليميتين الجارتين في تركيا وإيران. من الممكن القول بغير كبير مجازفة، أن التقرّب الأميركي غير المباشر في الحرب على العراق، يشكّل تطبيقاً نموذجياً لهذا النوع من التقرّب الاستراتيجي. مع الضربة الإلكترونية التي سبقت المعارك المباشرة، ابتدأ "الواقع الفائق" يفرض نفسه على معطيات الحرب الأميركية في العراق. ففي مثل إغماضة عين وانتباهها، استطاعت أميركا ان تشل الجهاز العصبي المركزي للجيش العراقي. إذ عطّلت نُظُمه في الاتصالات. وضربت الرادارات. وشلّت محطات الراديو. وأوقفت الاتصالات اللاسلكية. وشوّشت الاتصالات السلكية أيضاً. لعبت التقنية الرقمية للكومبيوتر دوراً أساسياً في ذلك. بفضل التقنية الرقمية، استطاعت الأقمار الاصطناعية أن توصل ضرباتها الدقيقة الى الأنظمة الالكترونية للإتصالات في الجيش العراقي. وبأثر التقنية الرقمية، استطاعت الأقمار الاصطناعية ان توجه صواريخ توماهوك وغيرها، كي تضرب أهدافاً منتقاة في العراق. وبفضل التقنية الرقمية، استطاعت الصواريخ المنطلقة من غواصات في أنحاء بعيدة من المحيطين الهندي والاطلسي، لتضرب مبانٍ معينة في بغداد. بالاختصار، كانت النُظُم التقنية للجيش الأميركي تعمل كدماغ فيه صور إلكترونية افتراضية للعراق بتفاصيله كافة. إلى أي مدى تطابقت هذه الصور مع الأساس الفعلي الذي يفترض أنها أُخِذَت منه، والتي كان مطلوباً ان تغييره وتعمل عليه؟ بعبارة أخرى، بدا ان ثمة فرضية عملانية في قيادة الحرب في الولاياتالمتحدة، يقول ان امتلاك الصور الافتراضية الالكترونية عن العراق، مع كمية هائلة من المعلومات المتصلة بكل صورة، يكفي لتحقيق الإنتصار. وبعبارة جلية، ردد وزير الدفاع الأميركي السابق رونالد رامسفيلد أن الحرب في العراق هي نموذج لتفوق التقنية على القوات المسلحة البشرية التي ظلّت عماد الحروب على مدار التاريخ المعروف للبشرية. تذكيراً، كان رامسفيلد من المتولهين بالتقنية الرقمية، إلى حدّ أنه كتب شعراً يمتدح فيه قدرتها على جعل قرد مُدرّب على الكومبيوتر، قادر على المساهمة في التجارة الإلكترونية! التصالح مع "أولوية المشاة" لم تسر معطيات الحرب في العراق بيسر. لم يملك رامسفيلد نفسه من الاعتراف، في غير مناسبة، ان مسار تلك الحرب لم يتطابق مع ما جرى افتراضه عنها. لكن، لنحاذر الإنزلاق الى السياسة. لنبقى في التقنية الرقمية. صنعت الحواسيب صوراً عن العراق، وسارت الأسلحة في ما رسمته تلك الصور. ولاحقاً، سار الجنود أيضاً، الذين جرى تسليحهم بوسائل اتصال إلكترونية متطورة، مع ما رسمه الكومبيوتر. وثمة واقع مهم في الحرب العراقية، التقطها المخرج الأميركي بريان دي بالما في فيلم "ريد أكتد" Redacted. لقد بني الفيلم على فكرة قوامها ان واقع الحرب في العراق صاغته "فعلياً" تلك الأشرطة الرقمية التي كان الجنود الأميركيون يلتقطونها ويبثونها على الانترنت. شاهد المخرج البارع دي بالما مجموعة من تلك الاشرطة، وعلى غرارها، صنع فيلماً ليبدو وكأنه يصور "الواقع" الذي انتج تلك الأشرطة الإلكترونية. كم حرباً، قبل العراق، خيضت بجنود متصلين يومياً، بوسائل مرئية ومسموعة وبشكل مباشر وعلى مدار الساعة، مع المجتمعات التي جاؤا منها؟ غالباً ما يُنسى هذا البُعد التقني عند الحديث عن الحرب العراقية، على رغم أنه أساسي فيها. لقد بقي جنود القوة العظمى على اتصال مع مجتمعاتهم بطريقة مباشرة، وكما لم يحدث في حرب من قبل، بحيث أثّرت إتصالاتهم على صورة هذ الحرب في تلك المجتمعات, وفي مرحلة تالية، أثّرت تلك الصور الرقمية على وقائع الحرب ومجرياتها. لنعد الى مثال معروف، ويصلح أيضاً نموذجاً عن الواقع الفائق. فبفضل كاميرا خليوي وشبكة الانترنت، استطاع جندي أميركي ان يبث صوراً من معسكر أبو غريب الى الولاياتالمتحدة، بالتحديد الى المجتمع الأميركي الذي جاء منه جنود تلك الحرب. لاحقاً، أثّرت تلك الصور على مسار الحرب نفسها. إذ أحرجت صور أبو غريب الادارة الأميركية, وأظهرت بُعدها عن تحقيق هدف استراتيجي هو "التأثير على إرادة الطرف الآخر في الصراع". أعطت صور أبو غريب دعماً لمقاومة الطرف الآخر، ولم تُسهّل مهمة التأثير الأميركي عليها. وبدّلت الصور التي جرى تبادلها عبر الفضاء الافتراضي للإنترنت، على النظرة الى تلك الحرب نفسها. لم تكن الولاياتالمتحدة بمنأى عن ذلك التأثير نفسه. ارتسمت صورة متشابكة حيث الواقع (الحرب) يفرض على الافتراضي معطيات معينة (صور أبو غريب، أشرطة الجنود...)، وسرعان ما تؤثر المعطيات التي يجري تناقلها عبر شبكة الإنترنت على الحرب الفعلية! وهكذا، لم تعد الإدارة الأميركية لتعيش الحرب الفعلية للعراق وحدها، بل صارت تعيش وقائع المعارك الفعلية، مضافاً إليها أثر الشبكات الافتراضية والتواصل الالكتروني بين الجنود والمجتمع المتورط في الحرب. إنه نموذج الواقع الفائق، حيث يتدخل الإفتراضي كي "يعدل" الواقع المُعاش فعلياً (أحياناً الى درجة أنه يصنع كلياً)، فيصبح التفكير فيه وتخيّله ومعايشته شيئاً متخالطاً بين ما هو "فعلي" وما هو "إفتراضي". في هذا المعنى، من المستطاع الاستنتاج أن حرب العراق هي أول حروب الواقع الفائق، بحيث "عدّل" الكومبيوتر في صورة الحرب ومعطياتها، وأثّر في إرادة الأطراف التي تخوض غمارها. في الكلام السابق، جرى التركيز على الأثر الذي تركه الواقع الافتراضي للكومبيوتر على الولاياتالمتحدة. لماذا لم تجر الإشارة الى الجانب الآخر؟ بسبب تعقيد هذا الأمر، أولاً. وثانياً، لأن بعضاً من مكوّنات "الجانب الآخر" ملئ الدنيا ضجيجاً (إلى أي مدى كان ذلك مجدياً؟) عن بعض وقائع أثر الافتراضي في تلك الحرب! لنتذكر الضجيج الذي رافق الصور الرقمية لأبو غريب. هذا مجرد مثال. لكن، ما هو الأثر الذي تركه على الطرف الذي يفترض أنه كان في "مقابل" (بمعنى في مواجهة) الولاياتالمتحدة؟ سؤال صعب ومُعقّد، أكثر مما يبدو. ليس حال التمزّق الوطني التي ترافق انتهاء عمل القوات الأميركية المقاتلة، سوى نموذج من هذا التعقيد. مثلاً، يسهل القول ان العمليات التي استهدفت قوات الاحتلال الاميركي في العراق، ساهمت في التأثير على إرادة الطرف الأميركي، أقلّه ظاهراً. (من يدر؟ ربما كُتِب يوم ما شيء آخر ومغاير عن هذا الأمر). يسهل القول ان هذا جزء من الصراعات غير المتكافئة في العصور الحديثة. ولكن، ماذا عن أثرها على إرادة وتفكير وعقل الطرف الذي أطلقها؟ وُضِعت كثير من صور تلك العمليات على مواقع إلكترونية على الانترنت، ينتمي بعضها الى قوى اسلاموية متطرفة، وبعضها الآخر متصل مع القاعدة، مثل موقع "السحاب" الإلكتروني مثلاً. ولكن، ما هو الأثر الذي ولّدته صور الانترنت وفضاءها الافتراضي على تلك الأطراف؟ هل عاشت فعلياً معطيات "الواقع الافتراضي"، بمعنى الأثر المتشابك بين الافتراضي والفعلي، في تلك الحرب؟ ربما يسهل التخمين أنها فعلت، لكن يصعب تجميع الأدلة على حصول ذلك. وفي شيء من الحذر والإستنتاج، من المستطاع القول بعدم استبعاد ان يكون "الواقع الفائق" شيئاً مما عاشته الأطراف التي "تصارعت" مع القوات الأميركية في العراق. إن صحّ ذلك، ولو نسبياً، فسيعطي مزيداً من الدعم للقول بأن حرب أميركا في العراق هي نموذج حروب الواقع الافتراضي الذي تعيشه الجيوش الحديثة. في نفسٍ مشابه، فإن التفاعل بين "الفعلي" و"الافتراضي" يسير في الإتجاهين. ولا يصعب القول ان حرب العراق أدّت الى هزيمة كبيرة لمقولات رامسفيلد عن قدرة التقنية على تحقيق النصر في الحرب. ووصل الأمر بالقوات الأميركية الى التركيز على القبائلي والمحايث، بحيث اعتبرت تشكيل قوات "الصحوة" محوراً أساسياً في هذه الحرب، بل في كسبها. وفي الحديث عن القوات المقاتلة وانسحابها، وبقاء قوات في قواعد آمنة، ظهر أثر تفاعلي آخر ل"الواقع الفائق". عادت الحروب في زمن الكومبيوتر لتعترف بأهمية الإنتباه الى البديهيات، ولم يعد باستطاعتها تجاهل قواعد أساسية في الحرب، مثل أولوية المُشاة التي تصنع صيغة النصر أو الخسارة فعلياً. على رغم كثافة التقنية، تسير الحرب في أفغانستان مرسومة بأقدام المُشاة، وتستطيع الإدارة الأميركية وحلفاؤها، الإشارة الى انتصارها أو إندحارها بناءاً لإنجازاتهم وإخفاقاتهم. على وقع القوات وأعدادها وانتشارها وتأثيرها، تتحدث الإدارة الأميركية (وحلفاءها) عن الإنتصار ومعانيه في الحرب على العراق. في العراق أثبتت المعطيات الفعلية ان الواقع الفائق لزمن الكومبيوتر، يجد نفسه مرغماً على الاعتراف بالمبادئ المكينة للحروب، مثل مقولة "أولوية المُشاة". هل تسير الحرب في أفغانستان لتأكيد الأمر نفسه؟ لننتظر. ولنر.