تشبه كردستان العراق لبنان. الشبه يتجاوز الطبيعة بما هي جبال وسهول الى مناح أخرى. ذاكرة الكردي، كذاكرة اللبناني تحمل الكثير من ندوب الحرب والظلم وإن اختلفت المسارات والخلفيات والأدوات والأسباب. إنها ذاكرة مثقلة بكثير من العنف الممارس على الجماعة وعلى الأفراد، وفي ما بينهم. ولكن الكردي يبدو براغماتياً في محاولته الخروج من هيمنة الذاكرة على حياته مستنداً الى استقرار ملحوظ في أمن مناطقه وعلاقات أطرافها الداخلية، وإلى رغبة حقيقية في التقاط فرصة انتعاش اقتصادي هيأتها الظروف السياسية في العراق والحصة المعتبرة من الموارد التي تتيحها موازنة البلاد للمنطقة المتمتعة بشبه استقلال ناجز. تقدم مدينة السليمانية الشمالية، ثاني مدن الإقليم الكردي بعد العاصمة أربيل صورة عن الإقليم في حاضره، وفي ما يمكن ان يكون عليه مستقبله. تتوسع المدنية المنبسطة في سهل تطوّقه الجبال الجرداء في شكل مطرد، وتبدو بيوتها الصغيرة ذات الطابع القروي وكأنها ستصبح من زمن ماضٍ مع صعود البنايات «العملاقة» وانتشار التجمعات السكنية على الطرز الغربية الحديثة حتى تخوم الجبال التي لا تزال تحتضن في ثناياها قرى قديمة لا تزال تعيش في أزمنة غابرة. فهل تصمد كثيراً مع ميل واضح يعبر عنه كثيرون الى الحياة المدينية؟ صحيح أن المدينة تشبه قرية هائلة، أو هي مجموعة من القرى المتلاصقة، لكن الأكراد، ومع ما تمثله القرى والجبال في ذاكرتهم من ملاذ آمن، ومن «حنين مر» الى زمن الهروب واللجوء والثورة، يبدون متحمسين لتجربة جديدة أكثر معاصرة وأكثر تلبية لمتطلبات المرحلة الجديدة. فالعصر يدخل الى كردستان بقوة وبسرعة، ولا بد من التقاط الفرصة، لا بل صنعها كما يقول كثيرون ممن تيسر لهم الخروج والتجربة والاطلاع. المدينة تنمو، لكن نموها لا يبدو عشوائياً، الأحياء الجديدة منظمة تنظيماً عصرياً: شوارع واسعة، حدائق، فسحات، خدمات، وهوية جديدة. طبعاً الأمور نسبية، والمقارنة غير ممكنة مع المدن العالمية، لكن البدايات تبشر بتحول حثيث، ولن يكون بعيداً اليوم الذي تصبح فيه المدينة القديمة ببيوتها ذات الطبقة أو الطبقتين محاطة بأبراج الباطون المسلح. ربما تكون المفارقة ان المدينة ستكون اشبه بضواحٍ بسيطة لضواحيها الحديثة، كانت الضواحي الفقيرة تنشأ حول المدن، لكن الوضع هنا يبدو معكوساً. ليست كردستان فقيرة، أو لم تعد فقيرة، لها تقريباً خمس موازنة العراق أو أقل قليلاً. والأكراد الذين يدركون جيداً أهمية إقليمهم الغني بالنفط وموارد أخرى في طليعتها المياه والأرض الزراعية والتربة المثالية لصناعة الإسمنت، يشعرون بأن الفرصة سنحت لهم للانتقام من ماضٍ يعتبرونه ظالماً ومجحفاً بحقهم. وهم يبدون مستعجلين للحاق، على الأقل، بدول الجوار. يتحدثون عن تجربتين: لبنان ودول الخليج. يعتبرون أنفسهم أغنياء بالنفط كدول الخليج، فلماذا لا تكون كردستان كقطر أو الإمارات عمراناً ودوراً، ويرون لإقليمهم مواصفات طبيعية تشبه طبيعة لبنان، فلماذا لا تكون كردستان موئلاً سياحياً كلبنان، أو كسورية؟ لكن الأكراد يعرفون ايضاً ان طموحهم المشروع ليس مساراً سهلاً. وعلى رغم استعجالهم، يدركون الصعوبات التي تعترضهم، الصعوبات الذاتية والعوامل الخارجية، والأهم، مآزق الوضع العراقي المأزوم. يتحدثون عن عشرات السنين، والعارفون يقولون ان التغيير ليس مالاً ورغبة، ولا حتى قراراً فحسب، انه يحتاج الى تأهيل، ليس على مستوى البنيان فقط، بل ايضاً على مستوى إدارة التطور والمستقبل. وهذا يحتاج علماً ومعرفة وخبرة لا تأتي بكبسة زر. وهم لا يكابرون. إذا كان كل ذلك غير متوافر فلنأتِ به من الخارج. تماماً كما فعلت دول الخليج. في السليمانية، كما في أربيل ودهوك وغيرها، ورشة كبيرة: شركات لبنانية وعربية وأجنبية وخبرات من كل العالم. مشاريع عمرانية، مؤسسات رسمية وخاصة، آليات ضخمة تشق السهول وتخرق الجبال. استثمارات هائلة في قطاعات البنية التحتية والسياحية من أبرز تجلياتها الفندق و «المول»، ومع ذلك ما زال إقليم النفط، يعاني أزمة كهرباء، كما كل العراق، وما زال الأكراد يعتمدون على المولدات الخاصة التي يستوردونها بواسطة تجار من دول الجوار، يأتي اللبنانيون في مقدمهم. إذاً، الورشة قائمة بالمال العراقي، وبالخبرات الخارجية، لكن الأكراد الذين باتوا أكثر ميلاً الى الانفتاح والحداثة، يظهرون رغبة حقيقية في التعليم. لهم جامعاتهم، لكنهم يدركون الحاجة الى تعليم أكثر فعالية وأعلى مستوى، كثر يسألونك عن الجامعات في لبنان. وكثر تسجلوا في جامعات لبنانية لإنجاز دراسات عليا في حقول متنوعة. المال ليس مشكلة. الدولة تدفع والأحزاب السياسية ايضاً، على قاعدة أن من يملك الشهادة العليا يمسك الوظيفة والقرار مستقبلاً. إلا أن «القطيعة» بين الأكراد والعرب، أياً كانت أسبابها، وأياً كان مسببها، خلقت مشكلة كبيرة في تواصل الأكراد مع محيطهم الطبيعي العراقي والعربي، وتحديداً على مستوى التعليم. يتعلم الكردي لغته واللغة العربية ولغة اجنبية. لكن التركيز على اللغة الكردية يترافق مع إهمال اللغتين الأخريين. وهكذا يجبر الكردي الراغب في متابعة دراسات عليا متخصصة في الجامعات العربية نفسه على مواجهة صعوبة كبيرة. وهذه المشكلة أكثر ما تظهر لدى الجيل الجديد. فهناك كثر من الشباب لا يعرفون، حتى التحدث باللغة العربية. ومعرفة اللغة العربية، كما يقر كثير من المثقفين الأكراد في السليمانية، تمليها الضرورات والحاجات وليس فقط القوانين والرغبات. ينبسط السهل المترامي بين الجبال بانتظام ترسمه حقول القمح التي يتوقع ان تؤمن اكتفاء ذاتياً للبلاد في السنوات المقبلة. ويطبع السهل طباع أهل المدينة الهادئة والساعية الى رزقها من دون ضوضاء كبيرة ولا زحمة. ويبدو الجميع ملتزماً النظام في مدينة لا تشاهد فيها عسكراً، لا أفراداً ولا آليات. فقط شرطة السير عند بعض التقاطعات المهمة، وفي ما خلا ذلك تقوم الإشارات الضوئية بالواجب في ظل امتثال طوعي من السائقين والمارة المرتاحين من ظاهرة الدراجات النارية التي ترهق عابري طرق بيروت. الأعلام والأحزاب بيد أن الهدوء الذي يطبع حياة الأكراد على الأرض، لا ينعكس في فضائهم الذي تضج به عشرات الأقنية التلفزيونية والإذاعية التي يمكن اعتبارها ظاهرة خاصة. ولكأن ذلك حالة طبيعية في زمان السلم بعد حروب وتوترات طويلة. ذلك حدث في لبنان بعد انتهاء حربه الداخلية عام 1990 قبل ان يعاد تنظيمه، وهنا ايضاً وجه شبه بين الإقليم ولبنان، يضاف إلى ذلك عدد كبير نسبياً من الصحف اليومية والدوريات. والإعلام في كردستان هو ميدان المنافسة الأرحب بين الأحزاب والقوى السياسية، تتصارع في الفضاء على الأرض وبشرها. يتقدم اعلام الحزبين الرئيسين، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس جلال طالباني والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وبينهما أحزاب من تلاوين مختلفة منها «حركة التغيير» المعارضة التي حققت انجازات مهمة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، و «الجماعة الإسلامية» وإسلاميون آخرون والشيوعيون وغيرهم من المجموعات الحزبية. ولا يبخل المقتدرون على اعلامهم، بل ينفقون عليه بسخاء، قد يكون مبالغاً فيه أحياناً، في حين يكتفي غير المقتدرين بحد أدنى من الإمكانات لضمان الاستمرارية. ولا يني الأكراد يتحدثون عن ثراء الأحزاب التي تتقاضى أموالاً من خزينة الدولة مشيرين الى تقاضي الحزبين الرئيسين 75 مليون دولار سنوياً، وبنسب أقل بقية الأحزاب، وهذه الأموال يذهب جزء مهم منها للإنفاق على الإعلام. وإذا كان بعض هذا الإعلام يعيش حالاً من «الترف»، فإن قسماً منه، وخصوصاً المستقل، يعيش أزمات شبه يومية تبدأ بالتمويل ولا تنتهي بالإشكالات القانونية والدعاوى وغيرها من المعوقات. يملك بعض المحطات التلفزيونية وخصوصاً، محطات الحزبين الرئيسين، إمكانات مالية كبيرة تنعكس خصوصاً في التجهيزات الحديثة الضخمة والمباني وملحقاتها والتي تفوق بحجمها المحطات العالمية الكبرى. لكن أوجه الاستفادة تبقى محدودة قياساً الى الإنفاق. فبعض الاستديوات مثلاً يعمل لمدة ساعة أو ساعتين يومياً. حتى ان بعض الجمعيات والمؤسسات الأهلية تملك وسائل إعلامها الخاص، فاتحاد نساء كردستان مثلاً، المقيم في مبنى فخم في وسط المدينة يملك صحيفة اسبوعية وأخرى فصلية فضلاً عن محطة إذاعية، وله مطبعته الخاصة في المبنى الذي يضم ايضاً مسبحاً داخلياً ومرافق وخدمات عالية. والإعلام في كردستان وفي السليمانية تحديداً، هو إعلام كردي من المرسل الى المتلقي، جمهوره المحلي اكراد العراق، والخارجي الأكراد في العالم، وخصوصاً في دول الجوار: سورية وتركيا وإيران. لا يدعي القدرة على تغيير العالم. همه استقطاب الأكراد فحسب. يقول مسؤول إحدى الفضائيات: «لن نستطيع مواجهة «الجزيرة» و «العربية» وال «بي بي سي» و «أبو ظبي» والقنوات العربية الأخرى على أرضها، فلماذا تبذير المال والجهد؟». ومع إقراره بأن التكاثر المطرد لعدد المحطات التلفزيونية يشتت الجمهور الكردي بحيث لا تحصل اية محطة إلا على نسبة قليلة من المتابعين، يؤكد أن في النهاية ستأخذ الأمور مساراً طبيعياً فلا يبقى إلا القادر على المنافسة، في المضمون وفي القدرات المالية. وفي مقابل الانتعاش التلفزيوني، تبدو الصحافة المكتوبة، اقل إثارة لشهية المستثمرين في قطاع الإعلام، إلا انها تجد حيزها المعقول في المشهد الإعلامي. والطفرة الإعلامية تستقطب أعداداً متزايدة من الوافدين الى هذا القطاع من خريجي الإعلام ومن أماكن أخرى، إلا ان ما يمكن استنتاجه هو ان الصحافة في شكل عام في الإقليم هي صحافة يمكن وصفها بالناشئة، وهي وليدة العقدين الأخيرين، إذ قبلهما لم يكن الحديث ممكناً عن صحافة حقيقية في الإقليم ولا حتى في العراق حتى، وربما من هنا أزمة الصحافة العراقية في شكل عام. إنها تبدأ من الصفر، وهذا ما يدركه أهل الإعلام في السليمانية وكردستان الذين تبرز من بينهم نخبة، وتحديداً في مديرية الإعلام في وزارة الثقافة في الإقليم، تريد إعلاماً معاصراً حقيقياً، وتسعى إليه عبر التعليم والاستفادة من التجارب الأخرى.