أستأذنكم في التوقف عن استكمال الحلقتين الباقيتين من مقالاتي المعنونة ب «السعودية والإخوان المسلمون». موقتاً، على أن أستمر في طرحهما الأسبوع المقبل، لأنصرف إلى الحديث عن لقائي في الأسبوع الماضي مع الإعلامي المعروف تركي الدخيل في برنامج «إضاءات» على قناة العربية الذي تحدثت فيه عن قضية التيارات الصحوية والحركية في السعودية المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين والتيار السروري، وقد وصلتني بعد اللقاء جملة من الاستفسارات والرسائل التي تطلب المزيد من التوضيح عما أشرت إليه في الحلقة عن دور وعلاقة التيار السروري الصحوي المنسوب للشيخ محمد سرور زين العابدين بتجنيد وإعداد الشباب للجهاد إبان الجهاد الأفغاني في الثمانينات الميلادية وعن أثر رموزه الشهيرة في تلك القضية. فمن الناحية الموضوعية يدرك كل باحث مختص في جماعات وحركات الإسلام السياسي، وذلك من خلال البحث والتتبع والاستقراء، أن من كان يقف مباشرة وبشكل رئيس خلف إعداد وتجنيد الشباب على حمل السلاح والقتال في سبيل الله هم جماعة الإخوان المسلمين التي استطاع الكثير من قيادتها ومن المنتسبين لها الزج بأعداد كبيرة من الشباب في أتون مهلكة الحرب الأفغانية، ولعل من أبرز الأسماء التي تولت كبر ذلك التجييش والإعداد القائد المعروف عبدالله عزام، الذي قدم للمملكة في عام 1981 للتدريس في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وكانت معظم المدن الرئيسة في السعودية محطات رئيسة في رحلاته المكوكية المتواصلة من أجل تحقيق حلمه الذي أعلن عنه مراراً بتجنيد عشرة آلاف عربي لتحرير أرض أفغانستان، وقد كان الأساس الذي انطلق منه في تحقيق إستراتيجيته في إعداد الشباب وجمع المال هو الرسالة أو الفتوى الشهيرة التي أطلقها حينها بعنوان «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان» التي سرت كالنار في الهشيم، لاسيما أن عزام استطاع أن يحصل على توقيع وتأييد عدد من كبار العلماء والدعاة على تلك الفتوى، ومنهم الشيخ عبدالعزيز ابن باز والشيخ محمد ابن عثيمين والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبدالله ناصح علوان، والشيخ حسن أيوب، والشيخ حسن حوى، والشيخ محمد نجيب المطيعي وغيرهم، بحيث تكون فتوى أممية معتمدة من علماء من مختلف المشارب والاتجاهات. وقد حكى عبدالله عزام في فتواه قائلاً: «كتبت هذه الفتوى، وكانت أكبر من هذا الحجم، ثم عرضتها على فضيلة شيخنا الكبير سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وقُرأت عليه واستحسنها، وقال إنها طيبة ووافق عليها، إلا أنه اقترح عليّ أن أختصرها حتى يكتب لها مقدمة ننشرها بها، ثم اختصرتها، ولكن وقت الشيخ كان مزدحماً وقت الحج ولم يتسع المجال لعرضها عليه مرة أخرى»، وفي موسم الحج عام 1983 وقف عبدالله عزام في «مركز التوعية العامة» بمنى في أيام الحج، إذ اجتمع أكثر من 100 عالم من دول إسلامية مختلفة، وقرأ فحوى الفتوى في حضور بعض قيادات الجهاد الأفغاني، وقال عزام: «لقد عايشت الجهاد الأفغاني ثلاث سنوات، وأقرر هنا أن الجهاد في أفغانستان يحتاج إلى رجال، فمن كان منكم أيها العلماء عنده اعتراض فليعترض... ولم يعترض أحد». وكذلك من الأسماء المهمة التي لعبت دوراً كبيراً حينها في الترويج لذلك المشروع الساعد الأيمن للشيخ عزام وهو الشيخ تميم العدناني، الذي قدم للسعودية للعمل مترجماً في شركة بريطانية في القاعدة الجوية بالظهران، إذ قال عزام عنه: «بدأ نجم الشيخ تميم يتألق في المنطقة الشرقية في السعودية، وأصبح مسجد القاعدة الجوية محطاً لأنظار الشباب، ولم يعد المسجد يتسع لرواده فوسعوه وزادوا مساحته تدريجياً حتى أصبح أربعة أضعاف مساحته، وقد انتشرت أشرطة الشيخ تميم في السعودية والخليج وسارت بذكرها الركبان، وأصبح محط أنظار المحسنين، إذ كان يجمع الملايين للجهاد ويقضي إجازته السنوية بين المجاهدين». فبمثل تلك الجهود والتحركات استطاع عزام أن يجذب ويجند أعداداً كبيرة من الشباب السعودي لدعم الجهاد الأفغاني حسياً ومعنوياً، وظهر بعد ذلك جيل من الخطباء والدعاة السعوديين في الجامعات والمساجد والمدارس المنتمين والمتأثرين بفكر جماعة الإخوان المسلمين الذين كان شغلهم الشاغل وقضيتهم الأولى والأخيرة الحديث عن كرامات وتضحيات المجاهدين في أفغانستان، وبدأ يظهر مصطلح ومفهوم الإعداد العسكري، فذهب الكثير وهم في مقتبل العمر للتدريب والإعداد على حمل السلاح باعتباره فريضة شرعية، ولم يكن الأمر يستدعي حينها أكثر من وجود الرغبة وما تبقى فهناك من يتكفل بكل ماعدا ذلك، وقد كنت على إطلاع ومعرفة بالكثير من النماذج الإخوانية التي كانت تعتبر قضية الجهاد في أفغانستان أعظم وأسمى فريضة يقوم بها الواحد منهم على رغم جهلهم وتقصيرهم في كثير من الجوانب الشرعية، وهنا تجب الإشارة إلى أن الفتوى الشهيرة التي أصدرها عبدالله عزام في فرضية الجهاد الأفغاني لم تحظ بدعم وتأييد مطلق من بعض رموز التيار السروري الصحوي حينها، إذ ناقش الشيخ سفر الحوالي في محاضرة له بعنوان «مفهوم الجهاد» تلك الفتوى قائلاً: «لقد أثار عجبي عنوان هذه الفتوى، فنحن منذ زمن طويل نقرأ أن أهم وأوجب فرض فرضه الله سبحانه على عباده هو توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، فكيف نقول: إن الدفاع عن الأراضي هو أهم فروض الأعيان؟! لذلك لابد من معرفة الغلو الواقع في هذا العنوان وفي هذا الكتاب، فأهم فروض الأعيان هو عبادة الله وحده»، وأشار أيضاً إلى «أن كلام الشيخ مناقض للأدلة الشرعية، وهذا هو الذي ينبغي لنا أن نعرفه، إذ لا يمكن أن يستنفر الناس على مجرد رأي، ولا مانع من أن يبدي المرء رأيه، لكن ليس له أن يلزم به الأمة، ولا يغلو فيه، حتى يتأكد أن من يخالفه لا حجة له، أو أنه ضعيف الحجة، والمسألة مسألة أنفس تباع، وليست قضية درهم أو دينار قابلة للحل ببساطة»، وشكك الحوالي أيضاً في إقرار الشيخ ابن باز لتلك الرسالة. لذلك لم تكن الرموز المعتبرة والمعتد برأيها لدى التيار السروري مندفعة كثيراً في تلك المرحلة لدعم ذهاب الشباب للجهاد في أفغانستان، باعتبار أن الساحتين المحلية والداخلية كانتا الأحوج لتأسيس العمل الدعوي والتربوي في المساجد والمدارس وفقاً لآرائهم وتصوراتهم التي ينطلقون منها، ولقد أجاد الكاتب والإعلامي المختص في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب فارس بن حزام في مقال له بعنوان «سلمان العودة وأسامة بن لادن وما بينهما» بتاريخ 8 كانون الثاني (يناير) 2008 في توصيف موقف أبرز القيادات الصحوية من ذهاب الشباب السعودي للجهاد في أفغانستان بقوله: «لم يكن سلمان العودة يوماً جهادياً، بل شكل هو ورفيق دربه الدكتور سفر الحوالي حجر عثرة أمام جبهة التجنيد إلى أفغانستان أيام الثمانينات، وإن كان للعودة مشروعه الخاص ولا يهمنا إن كان دينياً أم سياسياً، ما يهمنا أن للرجل رؤيته التي يريد إيصالها إلى أكبر قدر من الجمهور، ليتأثروا بها ويطبقوها، رؤية إستراتيجية ينتظر ثمارها بعد عقد وعقود، لم تقم على إلغاء الآخر فكرياً أو جسدياً». ولا يتعارض أو يتناقض هنا ما ذكر من موقف التيار السروري تجاه قضية تجنيد الشباب للجهاد الأفغاني مع موقفهم العام خلال تلك المرحلة من الجهاد على وجه العموم، سواء في أفغانستان أو في غيرها، من ناحية توفير وتهيئة الدعمين المادي والمعنوي وتناول الحديث حول التطورات الإعلامية لقضية الجهاد والإشادة به، ويعتبر ذلك الموقف جزءاً من ضمن النسيج العام للموقف الرسمي للكثير من الجهات والمؤسسات الرسمية والإعلامية بما فيها المؤسسة الدينية الرسمية الذي كان يتضمن الدعم العام والتأييد لقضية الجهاد على وجه الإجمال، ولكن تجب الإشارة إلى أن القضية الكبرى والمشروع الرئيس لدى التيار الصحوي السروري الذي كان يعمل ويبذل الكثير من أجلها في تلك الفترة هي أسلمة وتديين النواحي الحياتية اليومية كافة في المجتمع عبر الوسائل كافة، وليتم بعد ذلك تسييس خطابها الديني تجاه كبرى القضايا التي طرأت على الساحة، وهذا موضوع يحتاج إلى المزيد من التوضيح والتفصيل. * كاتب سعودي. [email protected]