تبتعد فئة كبيرة من الأغاني العربية منذ سنوات، عن الواقعية في طرح مواضيعها، وتغوص في العاطفة الى أبعد الحدود. وفي متابعة بسيطة لبعض القنوات الغنائية التلفزيونية أو الاذاعية، وللإصدارات الجديدة، نلاحظ أن غالبية المواضيع تدور في فلك الحب والعشق والغرام والهيام والاعترافات البديهية، أو حول الخيانة والعذاب والغدر من أحد طرفي العلاقة. كما نلاحظ أيضاً تكرار المعاني الغرامية والمفردات وتشابه الألحان والأفكار الموسيقية. من المعروف أن الأغنية وليدة مجتمعها وتعبّر عنه، ولكن هل تنعكس أوضاع منطقتنا في أغاني الجيل الجديد؟ تشهد المنطقة العربية فترات توتر حاد، وتلفها أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وبيئية عدة. ومن المنطق أن تنتج هذه الأزمات الحادة أغاني تعبر بصراحة عن واقعنا المحلي والعربي كأوبريت «الحلم العربي» التي جمعت فنانين من الخليج الى المحيط، في مبادرة لمقاومة العدوان، ولفت انتباه العالم بطريقة حضارية. واكبت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والعديد من نجوم الزمن الجميل الأوضاع المصرية في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، فقدموا أعمالاً تنبض بالوطنية لاقت استحسان الجمهور ورضاه. وكما في مصر عبّر مارسيل خليفة عن رفضه للوضع القائم وقدم أغاني ك «جواز السفر» و «ريتا والبندقية» وغنائية «أحمد العربي» ليحارب بصوته وعوده دبابة ومدفعاً ورشاشاً، حاملاً في جعبته كلمات الشاعر الراحل محمود درويش. وفي سياق متصل تُشبه تجربة الفنان السوري سميح شقير الى حد كبير تجربة خليفة في تعبيره عن رفضه للأوضاع. قد لا ينطبق كل ما تقدم على الوضع الراهن للأغنية العربية، على رغم التشابه الكبير في شتى المجالات. وفي ظل ثورة الإعلام المرئي، وتزايد شركات الإنتاج، وسهولة أن يصبح المرء وبلمح البصر مغنياً، من دون الحاجة الى المقومات الأساسية كالصوت مثلاً، تنحصر مواضيع الأغاني بالحب وصعوبة العيش بعد فقدان الحبيب. وللأمانة لا بد من الإشارة الى جهود بعض الفنانين في تقديم أغان فولوكلورية إنما بقالب عصري، وبعض الأغاني الوطنية في محاولة للسباحة عكس التيار. وبسبب كثرة الأغاني العاطفية التي تطغى على أعمال الفنانين، والتي تتشابه الى حد كبير، تبرز أغنية نانسي عجرم الجديدة «في حاجات» والتي تقول فيها: « في حاجات تتحس ومتتقلش، وإن جيت أطلبها أنا مقدرش، ولو إنت عملتها بعد ما أنا أطلبها يبقى مينفعش... مقدرش أقولك غير كل طريقة حبك ليا، أو غير عليا ولا فاجئني في مرة وهاتلي هديه، املا عينيا اعمل حاجه أنا مش عارفاها». تطلب نانسي من حبيبها - زوجها أن لا يكون روتينياً في حبه، وأن يشعرها بأنوثتها وجمالها وتميزها. ترفض المغنية اللبنانية أن تُخبر شريكها بما عليه فعله أو كيف يتصرّف. تطرح الأغنية مشكلة حقيقية في العلاقة بين المرأة والرجل وهي الروتين القاتل. تتوجه عجرم في الأغنية التي صورتها على طريقة الفيديو كليب في ادارة المخرجة السينمائية نادين لبكي، الى الرجل العربي أن يستنهض أفكاره ويعيد صياغة العلاقة من جديد، من خلال لمسة أو هدية بسيطة أو كلمة جميلة. لا تطالب الأغنية الرجل بعقود ألماس أو جزر على سطح القمر، إنما معاملة رومنطيقية حساسة، وتعديل بعض تفاصيل الحياة لتصبح أحلى. قد لا تعني الأغنية لكثير من المهمشين الذين يركضون يومياً وراء خبزهم اليومي ولكنها مجرد لفت نظر لفئة من الرجال تتناسى أن الأنثى تصعد الى السماء بكلمة رقيقة. وهنا لا نقلل طبعاً من شأن المرأة أو دورها في المجتمع، إنما المعروف عن هذا الكائن الحساس أنه يحب المفاجآت والاهتمام. ومما يطرح في أغاني «الجيل العاطفي الجديد» أن الحياة بعد فراق الحبيب تنتهي، وأن استمرارها لا يعني شيئاً، وأن الذكريات هي ما يبقى لعزاء الحبيب. للفنان ملحم زين وجهة نظر مخالفة في ذلك، اذ يخاطب حبيبته في أغنيته «ممنونك أنا» (أي شكراً لكِ) قائلاً: «ممنونك أنا على البعد ممنونك، عم بعيش في هنا ياحبيبي من دونك، هجرك ما ضيعني، أنت لي قلبك ضاع، زعلان شو يعني مطرح ما كنت رجاع...». يتشكر زين الحبيبة على هجرانها، ويعترف لها أن ما فعلته لم يُغيّر حياته، ولم يدفعه الى الانتحار، أو الى قتل نفسه أو ادمان الممنوعات مثلاً. فبعدما انفصل عنها، يعيش زين حالة من الاستقرار وربما ممارسة امور جديدة في حياته. كثير من العلاقات لا تنجح لأسباب عدة، على رغم الحب الكبير، منها عدم الانسجام الفكري، أو التفاهم على أساسيات الحياة، وربما يكون الروتين سبباً وجيهاً أيضاً. تدعو الأغنية الشباب الى التمسك بحب الحياة، فمن يرحل، ثمة من ينتظر ليحل مكانه. وفي سياق متصل تحاكي أغنية فرقة «بلاك ثيما» المصرية «إيه يعني» المفهوم ذاته تقريباً، اذ تستهتر بفراق الحبيب وتعتبره بداية الحياة، لأن ثمة أموراً كثيرة كانت غير متجانسة بين الطرفين. كما قدّمت الفرقة أيضاً العديد من الأغاني التي تنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر كأغنية «شيراتون» التي تصرخ في منتصفها « الحكومة دي عايزة ضبط»، و «زحمة» التي تعبر فيها عن موقف الشعب بصورة ساخرة تدعو إلى الألم (فعل وفاعل مفعول به اعرب مجلس شعبك إيه، مجلس طبعاً يبقى مضاف، شعبك هو المضاف إليه).