عندما كتب محمد عفيفي مطر قائلاً: «أنتظر القيامة/ وعودة الفروع إلى الجذور»، كان يضع لنا مفتاح رؤيته الشعرية كي نفهم علاقاتها في خصوصيتها وتميزها، صحيح أن كلمة «القيامة» تضعه في صف شعراء من طراز السياب وأدونيس وغيرهما من الذين أطلق عليهم جبرا إبراهيم جبرا اسم «الشعراء التموزيين» كشفاً عن طبيعة رؤاهم للعالم التي تنبني على أسطورة الولادة الجديدة التي تعود بها آلهة البعث الوثنية مع بداية الربيع، حيث يحل الخصب محل الجدب، والحياة بعد الموت، في دورة الفصول الكونية المنطوية على فكرة الدائرة من ناحية، والبعث المتجدد بكل آلهته تموز وأدونيس وأوزيريس وربات الخصب المصاحبات: عشتار وأنانا وإيزيس وغيرهن من ناحية موازية. وقد ظلت آلهة البعث الوثني وشعائره علامة ملازمة للشعراء الذين عاصروا ازدهار دولة المشروع القومي وسقوطه، سواء كانوا مؤيدين لهذه الدولة، أو معارضين لها، فقد ظلوا منطوين على نوع من التعظيم لقادة هذه الدولة، إلى الحد الذي كتب معه حجازي غنائياته في عبد الناصر واتحاده الاشتراكي، ودفع محمد عفيفي مطر إلى التفوّه بعبارات عن تعظيم صدام حسين إلى الحد الذي ألقاه في المعتقل المصري، في ذروة تأزم العلاقة بين النظام الساداتي والنظام العراقي، بتهمة الانتماء إلى حزب البعث، حيث نال من بشاعة التعذيب ما كان مصدر إلهام لديوانه «احتفالات المومياء المتوحشة» ولا أعرف، حقاً، هل كان محمد عفيفي مطر «بعثياً» بفضل السنوات التي عمل فيها في العراق، صديقاً لقيادات الحزب البعثي، أم أن بعثيته الباكرة هي التي قادته إلى السفر مع غيره من المثقفين إلى عراق صدام، هرباً من تحطيم السادات المتعمد لما بقى من صروح الدولة الناصرية القومية، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، مرتكباً خطيئة ظلت عالقة كالوصمة بتاريخه السياسي، فقد كان عليه الانتساب إلى حزب البعث في منفاه العراقي، وأن يشارك في الهجوم على النظام الساداتي من إذاعة مصر العربية التي ألقى فيها أحاديثه المعادية للنظام الساداتي، كراهية لهذا النظام من ناحية، وإرضاء لقيادات البعث من ناحية موازية، وكلاهما لا أهدف إلى إدانته في هذا المقام. المهم أن «القيامة» التي يشير إليها السطر الأول تعطف محمد عفيفي مطر على غيره من شعراء «البعث» التموزي أو الأدونيسي أو الأوزيري، ما ظل هذا «البعث» حلم الجميع طوال فترة الخمسينات وأغلب سنوات الستينات لكن «عودة الفروع إلى الجذور» كانت تمايز ما بين شعراء هذه الفترة، فأدونيس كان يعود إلى الجذور الفينيقية، منذ نشأته الباكرة في القوميين السوريين، وبدر شاكر السياب كان يعود إلى الجذور التموزية المرتبطة بأساطير وادي الرافدين، وقس على ذلك غيرهما أما محمد عفيفي مطر، فكان يعود بالفروع إلى جذورها الإسلامية العربية بالدرجة الأولى، فقد كانت هي المبدأ والمعاد، لا يتباعد عنها إلا ليعود إليها، وذلك على النحو الذي تصاعد تدريجياً إلى أن تكامل مع ديوانه أنت واحدها وهي أعضاؤك انتشرت أعنى ذلك الديوان الذي يتضوع بعبقه الإسلامي الفريد وقد أهداه محمد عفيفي مطر إلى «محمد سيد الأوجه الطالعة، وراية الطلائع من كل جنس منفرط على أكتافه كل دمع ومفتوحة ممالكه للجائعين وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم» ولافت للانتباه توافق اسم المُهْدِي بضم الميم وكسر الدال محمد مع المُهْدَى إليه محمد، فتوافق الاسمان دال في سياق إسلامي عربي بالدرجة الأولى، ويقودنا إلى مركز الدائرة التي يبدأ من عندها ليعود إليها، في مدى حلم «القيامة» أو «البعث الجديد» ومن ثم كل محاولة إبداعية بهدف «عودة الفروع إلى الجذور». وأتصور أن دلالات الإهداء تمضي في هذا الاتجاه، فمحمد النبي (صلى الله عليه وسلم) هو منبع الخير ونبعه راية الطلائع من كل جنس، مفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم، كما لو كان حضوره القدسي هو نور المعرفة التي تبعث الحياة في جسد العالم، كي تنقله من الغيبة إلى الحضور، كما تفتح أبواب الخير للفقراء الجائعين في كل مكان هكذا يغدو الحضور النبوي المتضمن في الإهداء هو حضور نور البدء والختام، والمرتكز الذي يتفرع منه كل شيء ليعود إليه في عالم الإحياء بعبارة شعرية أكثر دقة كل عودة إليه هي نوع من القيامة التي يلزم عنها «عودة الفروع إلى الجذور». ولا فارق كبيراً بين هذا التأويل الذي أذهب إليه ومفهوم الزمن الإسلامي العربي الذي ينطوي على لحظة زمنية مُثلَى، هي لحظة البداية الأسنى التي يقترن بها عصر ذهبي، أكمل في صفاته، انبعث كالنور وسط ظلمة الوجود ليترجع أفقياً في حركة المكان ورأسياً في حركة التاريخ عبر العصور، ولكن لا تتصل هذه اللحظة ولا تمتد أفقياً فحسب، أو على نحو صاعد، وذلك لخطيئة ينطوي عليها النوع الإنساني الذي لا يخلو من جرثومة فساد ملازمة لجوهر وجوده، وقد خرج بسببها من جنة الابتداء التي وجد نفسه فيها، والتي تأولتها بعض التفسيرات الدائرة حول الحديث النبوي المروي في مسند الإمام أحمد بن حنبل «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم.....» وتنتقل هذه الخيرية إلى ما يماثلها، إن لم يفق عليها في الفضل، وهو عصر الرسول الذي كان العصر الذهبي الذي ظلت تسترجعه، وتحلم باستعادته الطوائف التي آمنت بانحدار الزمن، ومنها محمد عفيفي مطر الذي ظل يحلم في شعره بزمن القيامة الذي يعيد التاريخ الإسلامي إلى خير زمن بدأه بفعل بعث أو استعادة أو «قيامة» مصحوبة بعودة «الفروع إلى الجذور» والزمن المستعاد، في فعل القيامة، هي اللحظة الذهبية للزمن المحمدي راية الطلائع من كل نوع، ما ظل حضوره النبوي كلام الحياة وابتداءها في جسد العالم وتلك رؤية ليست بعيدة تماماً عن الرؤية السلفية التي تسندها أحاديث ومرويات من قبيل «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». والعودة إلى اللحظة الأولى لهذا العصر الذهبي هي عودة إلى «جذر النخل والطلع المكتم في مساربه العميقة» في طريق يبدو كالحلم، والشاعر فيه كالحالم الذي يقول لنا: «ليس لي إلا سويعات من النوم السخيّ أمر فيه على البلاد وأستعيد الشمس والرعي الطليق، أكلم الموتى وأسمع ما تزمزمه العظام وأشد فيهم ما عقدتُ من العُرَى...» والشاعر الحالم، في السياق نفسه، لا يستعيد اللحظة الأولى من تخلق نواة مجلى السلالة التي ينتسب إليها في الليل، حيث يمضي الحلم إلى غايته، كي ينظر ما تصاهر من دم، تتقلب الأنساب فيه بصبوة العشق المبرح: بين عينيّ السموات العُلى مسكوبةٌ ما بين كفي الظلام حجارة تتقادح الأوقات فيها، الأرض روَّتني وبللت الرمال السافيات بريقَ عينيّ المحدقتين في شمس التذكر، أسمع الموتى، أكلمهم، وأخرج في سهوب النوم عرشي قائم الأوتاد في صمت البوادي والخليقة. وفي وسط امتداد هذا الصمت، بيت تهوى إليه القوافل والسابلة، ينبثق منه النور الذي يشع على العالم من ذكورة عشق البداوة، وأفق من النخيل والطير، والمسافات معجونة بالقرابين، والأرض ورد الدهان، والشاعر يمضي كأنه ابن النسور القديمة، وابن معلقة الشعراء، يؤاخيه قليب برود، وهو يحلم باللحظة الأولى التي خرج فيها المسلمون من هذا البيت الذي تهوى إليه القلوب والأفئدة، ويقلِّب عيني بصيرته بين جهات الحلم، فيكتب: السموات أرسلن لي شمسهن المضيئة بالفتح، والأرض تطوي صحائف أسلافها وأنا أول الوارثين وآخرهم. فيسترجع بالذاكرة التي تحن إلى زمنها الأول والأمثل انبثاق النبوة كالنور، في مدى العشيرة الأقرب، حيث يكتب السعف الحِمَى والأغصن المثمرات: دم يتناسل فيه النبوات والشهداء والكتابات والصرخة الفاتحة. والنبي المصطفى يقرأ للمرة الأولى باسم ربه، في أمة هو واحدها، وهي تحت السموات أعضاؤه انتثرت، فالقراءة بشراه، والقوم ضده، والحصار يضيق من أثرياء قريش، لكن النبي يرقب الأرض ذات الصدع، والسماء ذات الرجع، والجبال تمر مرّ السحاب، ويطول به الحال الذي يستبطنه الشاعر الحالم، كاتباً: جسدك تهليلة السموات والأرض وما بينهما لائذ بك، يدخل الأسواق، يأكل الطعام، يتخفى فبالعشائر أنت والأمهات هل يكيدون ويكيد الفقراء كيدا بل يمكرون ويمكر الفقراء. وتمضي معركة الدعوة في قلب الجزيرة العربية، إلى أن يشرق نور الإسلام على كل أرجائها، وتستعيد الذاكرة الشعرية مجد السلالة التي تنتسب والعصبية العرقية الدينية التي لا تفارقها، فلأمر مقدور هبطت الرسالة بين العرب، كي تستقوي بدينها الذي جعل منها خير أمة أخرجت للناس، منحازه إلى الفقراء الذين هم مِلح الأرض، ومنبع جند الله التي تنطلق في الأرض كأنها: ديمومة للريح العصوف لجامها المرخى وأمداءٌ من الكرّ الفسيح/.../ ترتوي عرقاً وتصهل بين أشفار المناجل والسنابل تضرب الأرض القديمة في نُعاس الحمل/.../ يستجيش بها علو المد والموج. ولا تتوقف الخيل المجنحة المندفعة في سَفَر الحمية، وكرامة الأعراق، ونبل الرسالة، والخليقة مطوية تتقلب بين نهارات الفتح وغسق الموالفة، وأمم تدخل في دين الله، تحل عراها وتفتح أكمامها في مسيرة الفاتحين، وبحر الروم يعلو فوق أطراف الحراب، وشواهد الأسلاف تبرق بالأهلة والبكاء الفرح، والأرض شققتها شهوة المطر الذي تستجيب خيوله المطلوقة في الغيم، والزمن استدار على أوله كيوم بدء الخلق، أو بدء الفتح، هكذا يبتدئ الإسلام زمنه ومعجزة فتوحه التي تحمل الوشم بالميراث والولاية والسموات تهمس لكل واحد من الفاتحين «أنتسب للشجر الأخضر والفقر الصريح». وتهمس للشاعر الذي يتقمص لحظة الفتح، في فعل استرجاع الذاكرة: «فكن سماء وهي أرض ينبوع وجبل تسكين وإذا تحركتَّ فلتكن حركة إحياء». وهو يطيع، فيبتعث لحظات الابتداء التي انطلق منها المجد العربي الإسلامي، أو الإسلامي العربي، بلا فارق، منطوياً على سر البعث الذي يكمن وراء حركة الإحياء الطقسية، فينفذ بسلطان شعره من أقطار السموات والأرض، ناظراً ممالك الجن الفسيحة، وقلق الإنسان ومستقبل حلم الرسالة، وكلما تحقق جزء من هذا الحلم شعر ببعض ما تنطوي عليه النعمة الكبرى التي يحول دونها شقاق قبائل السلالة، وأطماع تجار قريش القديمة الجديدة التي نسيت الانتساب للشجر الأخضر والفقر الصريح، فتسترجع الذاكرة قريش التي نسيت السقاية وأغواها العرش، فامتلأت خزائن الرشوة والجباية، وامتدت ظلال أبى سفيان، أقنعة تلبسها الوجوه، وخزائن مال في أزمنة المجاعة والوباء، ويقتل عبد مأجور عمر بن الخطاب الذي لم يفارقه نقاء السلالة والانتساب للشجر الأخضر والفقر الصريح، وينثال دم عمر على الصحراء التي بدت كأنها تقول هل من مزيد؟ وتمرح جرثومة الفساد التي ينطوي عليها الإنسان بغواية الثراء ويزيد الطين بلة العناصر غير العربية التي تسللت إلى الحضارة العربية كي تفسدها، وتهيمن عليها بما يكسر من اندفاع رسالتها التي يرفرف جناحاها على كل ما هو قرين خضرة الخصب والعدل الذي يعين الفقراء الذين تنطبق عليهم صفة «الفقر الصريح» هكذا، تنحدر شمس الحضارة العربية الإسلامية، وتبدأ دورة الجدب المرادف للموت المصاحب للهزائم وانحدار التاريخ الذي لم يكمل صعوده، فانكسر في عهد مبكر على يدي الذين تجسّدت فيهم النطفة السوداء الكامنة في المخلوقات، تلك التي تغذّيها نوازع الشر الموجودة في الإنسان الذي تنحرف به غواية الثروة، فتحيل الخليفة العادل عمر إلى خليفة ظالم، يؤسس لملك عضود معاوية لكن بعد مقتل عمر على أيدي أثرياء قريش الذين أفسدوا رؤية العدل الذي أراد أن يحققه، فدسوا عليه من اغتاله، وأضاع حلمه، فجاء عثمان الذي أسلم رقاب الناس لعشيرته الأقربين، فحدثت الفتنة التي انتهت باغتياله، واغتصب الخلافة معاوية بن أبي سفيان الذي وصفه محمد عفيفي مطر، من وراء قناع عمر، بأنه التجسيد الضار لرأس المال الذي يتحكم في الناس ويتأسس الملك العضود مع ابن معاوية الذي يسلمه لأبنائه، لكن بعد أن أصبح مسؤولاً عن قتل الحسين حفيد النبي، ووارث حلم العدل الذي افتدى المسلمين بدمه، كي يتحقق حلمه عن العدل، لكن سدى، بعد أن استبدل يزيد ابن معاوية بعباءة الخلافة صولجان الملك، ودفع بجنده إلى حصار الحسين ورهطه، محيلين بينه والماء، كي يموت عطشاً، في مشهد يصوغه الوشم الأول من «وشم النهر على خرائط الجسد» فنقرأ على لسان الحسين: «وأرى في الشاطئ الثاني جنود الملك القاسي يدقون الرِّماح بيننا نهر من الماء ونهر من مساحات الوجوه بيننا أرض أمومة وفطام، بيننا أرض الأذلاء المهانين، وأيام العروش ومماليك الدم الواحد، والخبر النحاسيُّ، وتاريخ السجون. * جزء من دراسة طويلة عن الشاعر المصري الراحل محمد عفيفي مطر.