بدأ التعامل مع «الفساد» في السعودية أكثر حزماً مما كان عليه في السابق، داخل المؤسسات والهيئات الحكومية، وأصبح في مواقع التواصل الاجتماعية «توظيف الأقارب والأبناء» بمرتبات عالية على مستوى تعليمي محدود من أبشع صور «الفساد الإداري»، إلا أن فئات من المجتمع ماتزال ترى عدم «الفزعة» مع الأقارب، حتى ولو على حساب العدالة، من خوارم «الرجولة». ثقافة «الواسطة»، التي صنفت ضمن «الفيتامينات» الأكثر فاعلية في المجتمع السعودي، ليست حكراً على الموظف الكبير فحسب، بل حتى الموظف الصغير، ف«الموظفون» على دين «وزرائهم»، على رغم تصنيفها ضمن أسوأ جرائم استعمال السلطة الوظيفية، إذ إن «الواسطة» في جوهرها «محاباة الأقارب والأصدقاء وتفضيلهم بسبب قرابتهم لا كفاءتهم، وتوظيفهم على رغم وجود الأكثر كفاءة». وشكلت «الواسطة» أو «المحسوبية» جزءاً كبيراً من بلاغات الفساد والتجاوزات التي رصدتها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة»، إذ تلقت قبل عامين نحو ستة آلاف بلاغ، منها 1116 بلاغاً بما نسبته 18.4 في المئة من إجمالي البلاغات تتعلق بفساد مالي وإداري، جاء منها 414 بلاغاً عن سوء الاستعمال الإداري، و178 بلاغاً عن إساءة استعمال السلطة، و134 بلاغاً عن إساءة استخدام المال العام، و105 بلاغات عن الواسطة والمحسوبية، و100 بلاغٍ عن اختلاس مال عام، و88 بلاغاً عن حالات تزوير، و66 بلاغاً عن التسيب الوظيفي، و31 بلاغاً عن حالات رشوة، وجاء 1211 بلاغاً، بما نسبته 20 في المئة من إجمالي البلاغات، متعلقاً بسوء مستوى تنفيذ الخدمات والمشاريع، و295 بلاغاً، بما نسبته 4.9 في المئة من إجمالي البلاغات، عن قصور في الأنظمة أو إجراءات العمل. «مكافحة الفساد» تصطدم بطوفان من «ثقافة المحسوبية» حمّلت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «البيروقراطية» الإدارية في عمل الأجهزة الحكومية مسؤولية تفشي «ثقافة المحسوبية»، إضافة إلى ضعف الشفافية بين المواطن والمسؤول، مؤكدة وجود ثقافة «الواسطة» التي وصفتها ب«الآفة الخطرة» في المجتمع، كونها أحد مكوناته «الثقافية». جاء ذلك في تقرير أعدته الهيئة عن مؤشرات هذه الثقافة، تضمّن: مفهومها وحكمها الشرعي وأسبابها والآثار المترتبة عليها، مؤكدة انتهاكها القوانين التي وضعت لرعاية وحفظ المصلحة العامة للأفراد والمجتمع، والمساواة والعدل. وأكدت الهيئة في تقريرها المرفق في موقعها الخاص أن ثقافة المحسوبية، التي تستخدم معيار المعرفة والقرابة والمصلحة الخاصة منهجاً وسلوكاً، امتدت آثارها من الفرد والمجتمع إلى إصابة التنمية في مفاصلها. وعرّفت الهيئة مفهوم ثقافة «الواسطة» بأنه: «طلب المساعدة من شخص ذي نفوذ وحظوة لدى من بيده القرار، أو المقدرة على ممارسة السلطة، لتحقيق مصلحة معينة بغير حق لشخص لا يستطيع تحقيقها بمفرده»، مؤكدة أن هذا المفهوم فيه تجاوز للأنظمة واعتداء على الحقوق ومنحها لمن لا يستحقها، مشددة على وجوب محاربتها ووأدها في مهدها، بوصفها أخطر أنواع الفساد الخفي الذي يهلك المجتمع ويدخله في عاصفة الفساد الإداري والمالي الخفي، وذلك لما يترتب عليها من وصول أشخاص إلى مواقع قيادية، بل إلى مواقع صنع القرار، بالمحسوبية ومن دون النظر إلى التأهيل والمناسبة والكفاءة. فالمصلحة والمنفعة، والحصول عليها، محور الواسطة وهدفها النهائي، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الواسطة من دون الحديث عن مصلحة أو منفعة غير قانونية أو غير محقة». وأوضحت الهيئة أن الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد جاءت في أكثر من مادة، ما يؤكد وجوب قيام الأجهزة الحكومية بتطبيق الأنظمة وتطويرها وتقويمها وتوضيحها، وتقليص الإجراءات وتسهيلها والتوعية بها، للقضاء على الاستثناءات غير النظامية والقضاء على داء «الواسطة». وجاء في البند الثالث - فقرة 2: تطوير وتقويم الأنظمة الرقابية والإدارية والمالية، لضمان وضوحها وسهولة تطبيقها وفعاليتها. وتقليص الإجراءات وتسهيلها والتوعية بها، ووضعها في أماكن بارزة، كي لا تؤدي إلى الاستثناءات غير النظامية. كما جاء أيضاً في الفقرة 3: التأكيد لمسؤولي الدولة أن الوضوح وسيلة فاعلة للوقاية من الفساد، وأن اعتماده بمثابة ممارسة وتوجه أخلاقي يضفي على العمل الحكومي الصدقية والاحترام، وتسهيل الإجراءات الإدارية والتوعية بها، وإتاحتها للراغبين، وعدم اللجوء إلى السرية، إلا في ما يتعلق بالمعلومات التي تمس السيادة والأمن الوطني. مشيرة إلى أن الواسطة تكرس مبدأ التمييز في التعامل، والنظر إلى المركز الوظيفي والاجتماعي للمُراجع، وذلك يترتب عليه فساد وآثار متعددة تقضي على عمليات التطوير والبناء والإصلاح الإداري، وتسهم في تبديد الثروات والموارد الوطنية وإعاقة مسيرة التطوير والنهوض بالبلاد في مختلف الأصعدة والمجالات. وحمّلت الهيئةُ البيروقراطيةَ الإدارية في عمل الأجهزة الحكومية مسؤولية تفشي هذه الظاهرة، لافتة إلى وجود عدد من العوامل التي أدت إلى انتشارها في شكل واسع، ما جعلها مكوناً ثقافياً راسخاً في الوعي المجتمعي. جاء بينها: «البيروقراطية الإدارية في عمل الأجهزة الحكومية، وطول الإجراءات وتعقيدها، وضعف الوازع الديني، وضعف الشعور والرقابة الداخلية، إضافة إلى غموض الأنظمة والأعمال الإدارية، وعدم إتاحتها للجميع، وضعف الشفافية بين المواطن والمسؤول، إضافة إلى عدم مرونة الأنظمة، ووجود الثغرات وسهولة تكييفها لبعض المصالح الخاصة، وعدم مواكبة الأنظمة والإجراءات للتطورات والتقدم التقني الحديث، والجهل بالأنظمة وباللوائح وبالإجراءات المتبعة في غالبية الأجهزة الحكومية، بسبب عدم التوعية بها». وأوضح القاضي السابق المستشار القانوني عبدالله العثمان ل«الحياة» أن المحسوبية والمحاباة في التوظيف هي من أهم أسباب استشراء الفساد الإداري، لأن ذلك يكون على حساب الكفاءات التي إما أن تقتل في مهدها وإما أن ترحل وتهاجر إلى من يقدرها، وأضاف: «النظام عالج مثل هذا بتجريم إساءة استعمال السلطة أو استغلال النفوذ الوظيفي»، وتابع العثمان: «إمكان الحد منها يتوقف على الحزم في تطبيق النظام الذي يجرمها». وأضاف: «تبقى الواسطة وثقافتها كبقية الجرائم التي تحدث على رغم وجود النصوص التي تجرمها»، وتابع: «غني عن البيان أنه إذا غاب الرقيب الداخلي - وهو الضمير - وغاب الرادع الخارجي، صَعُب العلاج». من جهته، أوضح المحامي، المستشار القانوني بندر المحرج ل«الحياة»، أن المحسوبية في التوظيف والتعيين أو حتى الترقيات تعتبر ضمن «الفساد الإداري»، إذ صدر عن هيئة مكافحة الفساد ما يُعبر عن ذلك. وزاد: «على رغم عدم وجود نظام صريح في شأن الواسطة، وهي بلاء عام، إلا أن توجد نصوص في أنظمة متفرقة تُعطي المتضرر من قرارات الواسطة الحق في المقاضاة والاعتراض عليها، ومن ذلك ما تضمنه نظام الخدمة المدنية من شروط محددة لشغل بعض الوظائف أو الحصول على الترقيات». وأوضح المحرج أن «هناك خلطاً عند بعض من يبررون الواسطة وبين الشفاعة الحسنة، فهم يعللون الأولى بالثانية، وهذا تعليل فاسد»، ومن ناحية قانونية، أكد المحرج أنه بإمكان كل متضرر من الواسطة ضرراً يستطيع إثباته نظاماً أن يتخذ الإجراءات النظامية للاعتراض عليه بدءاً من مرجعه وانتهاء بالرفع للجهة القضائية المختصة». ونصت الفقرة الأولى من المادة ال12 من نظام الخدمة المدنية، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م-49) بتاريخ 10-7-1397ه، على أنه «يحضر على الموظف، خاصة، إساءة استعمال السلطة». كما نصت المادة الثانية من لائحة الواجبات الوظيفية، الصادرة بالقرار الوزاري 10800-703 بتاريخ 30-11-1427ه على أنه «يحظر على الموظف استعمال سلطة وظيفته ونفوذها لمصالحه الخاصة»، كذلك نصت الفقرات الأولى والثانية والخامسة والثامنة، من المادة الثانية، من نظام الجرائم الإدارية، الصادر برقم (م-43) وبتاريخ 29-11-1377ه، أنه يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على 10 أعوام أو بغرامة لا تزيد على 20 ألف ريال كل موظف ثبت ارتكابه إحدى الجرائم الآتية: 1- استغلال نفوذ الوظيفة لمصلحة شخصية في داخل الدائرة وخارجها. 2- التحكم بأفراد الرعية، أو الافتئات على حق من حقوقهم الشخصية بصورة من الصور، أو تكليفهم بما لا يجب عليهم نظاماً. 3- سوء الاستعمال الإداري، كالعبث بالأنظمة والأوامر والتعليمات وبطرق تنفيذها؛ امتناعاً أو تأخيراً ينشأ عنه ضرر خاص أو عام، ويدخل ضمن ذلك: تعمد تفسير النظم والأوامر والتعليمات على غير وجهها الصحيح، أو في غير موضعها؛ بقصد الإضرار بمصلحة حكومية؛ لقاء مصلحة شخصية، واستغلال أياً كان نوعه في تفسير الأوامر وتنفيذها لمصلحة شخصية من طريق مباشر أو غير مباشر. من جهته، قال رئيس مبادرة تكامل للمعونة القضائية المحامي ماجد قاروب ل«الحياة»: «لا بد من التفريق في الحديث عن التوظيف بالمحسوبية والوساطة ما بين التوظيف في القطاع العام والتوظيف في القطاع الخاص، إذ إنه في المجتمع السعودي المستند إلى العشيرة أو القبيلة واحترام علاقات القربة، يكون التوظيف على أساس الثقة، ونجد أن المحسوبية أمر يتوافق مع طبيعتنا، وذلك من خلال تزكية المسؤول لتوظيف الأقارب في داخل الشركات العائلية ومؤسسات القطاع الخاص، وهذا في الأساس تستند عليه القطاعات الخاصة»، وأضاف: «للأسف امتد ذلك إلى الموظفين الأجانب في القطاع الخاص، فنجد كل موظف أجنبي بالقطاع الخاص عندما يجد فرصة لتوظيف مزيد من العمالة الأجنبية فإنه يبحث عن توظيف أقربائه من خارج المملكة، وهذا ما نلاحظه في القطاع الخاص، الذي يستند في الأساس على الثقة، وليس على الكفاءة، إلا في المناصب التي تحتاج إلى الكفاءة النوعية». وأوضح: «التوظيف في القطاع العام، وعلى رغم وجود نظام الخدمة المدنية، فهناك من يحترف التعامل مع النظام، من خلال بنود التوظيف المختلفة، لذلك نجد أن هناك سوء استغلال للنظام في التوظيف وهذا الاختلال واضح من عدم توظيف الشخص بحسب شهادته العلمية مع طبيعة الوظيفة، وذلك لعدم وجود دليل إرشادي للوظائف الحكومية. وهذا مشهود في جميع المؤسسات والهيئات والقطاعات الحكومية». وأضاف: «المحسوبيات موجودة، وذلك لعدم وجود الرقابة. والمعيب هو استخدام القرابة في التوظيف، وليس الشفاعة لمن تنطبق عليهم الشروط اللازمة، والكفاءة لشغل وظيفة معينة». وتابع: «نحتاج إلى التعامل مع هذه المشكلة لما يسمى ب(سيادة القانون) على الجميع وإيجاد دليل واضح لإصلاح الخلل الهيكلي في نظام الخدمة المدنية، التي أثرت سلباً في الجهاز الحكومي، والمناصب، و«التضخم»، الذي أدى إلى سلبية عكسية جداً، من مظاهرها وجود أطباء عدة في وزارة الصحة على وظائف إدارية، إذ تم حرمان قطاع الطب من أطباء أكفاء وتوظيفهم بالإدارة غير الملمين بها»، وقال: «هذا ما يؤكد وجود خلل في المنظومة الحكومية، التي تحتاج إلى معالجة بشكل مباشر وإعادة تأهيل القطاع الحكومي لخدمة المجتمع وفق ما يتطلع إليه ضمن (رؤية 2030)، التي تحتاج إلى سيادة القانون وتوظيف الشخص المناسب في الوظيفة المناسبة من خلال وظيفة محددة واضحة المعالم والصلاحيات ليتمكن الجميع من القيام بدورهم». لافتاً إلى أن الجهات المعنية بذلك، هي: وزارة الخدمة المدنية، وهيئة مكافحة الفساد، وهيئة الرقابة والتحقيق، وديوان الرقابة العامة، وجميع الأجهزة الرقابية بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني. عضو «شورى»: «الواسطة» أصبحت «ثقافة». الخنيزي: المحسوبية لها تأثير سلبي في أداء العمل. العوني: تسمية «الواسطة» ب«الشفاعة» خداع للنفس.