بين المراسلين الأجانب الذين غطوا أخبار الحرب اللبنانية اشتهر ديفيد هيرست وروبرت فيسك، كصحافيين يتمتعان بفهم سياسي عميق لتاريخ البلد الذي تابعا تطور أحداثه وأحداث المنطقة لفترة تزيد على ثلاثين سنة. آخر كتاب أصدره ديفيد هيرست تحت عنوان مثير للجدل هو: «حذار الدول الصغرى». وأعطى الحرب التي خاضها «حزب الله» صيف 2006 كمثل على عجز الدول الكبرى عن منع حروب الدول الصغرى، بخلاف ما كانت تفرضه صيغة الاحتواء طوال مرحلة الحرب الباردة. في مواجهة صيغة الأدوار المتغيرة التي عرضها هيرست في كتابه، طرح زميله روبرت فيسك نظرية الإرباك الاستراتيجي الذي تعانيه الولاياتالمتحدة نتيجة سياسة الارتجال والتخبط في تعاملها مع الأزمات المتنامية من فلسطين حتى أفغانستان. وقال فيسك خلال المحاضرة التي دعت اليها «جمعية الصداقة اللبنانية - البريطانية» في لندن، إن اسرائيل شنت ست حروب ضد لبنان خسرتها كلها. وهذا ما اضطرها في كل مرة للانسحاب بعد الفشل في تحقيق أي من أهدافها السياسية والأمنية. ولكنه في الوقت ذاته، أعرب عن تخوفه من نشوب حرب مفاجئة عام 2011 باعتبارها تشكل موعد الاستحقاقات للكثير من الأزمات المتفجرة على جبهات المنطقة كلها: فمن أزمة المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في شأن القدس واللاجئين والحدود... الى معالجة البرنامج النووي الإيراني قبل الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان... ومن تزايد احتمالات مشاريع الانفصال في السودان واليمن والصومال... الى البحث عن قائد باكستاني يقود الانقلاب العسكري المطلوب لامتصاص النقمة الشعبية العارمة. مع دخول العام المقبل بعد ثلاثة أشهر، يبدو من الصعب بلورة اتفاق فلسطيني - إسرائيلي في ضوء المعلومات التي تشير الى مخطط لبناء 1362 وحدة سكنية في القدس الشرقية وحدها. ومنذ 1967 والاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية يحول دون تحقيق فكرة دولتين لشعبين. وهذا ما يفرض على كل رئيس وزراء إسرائيلي تجنب الكأس المرة منذ اغتيل إسحق رابين بسبب تحدي المستوطنين. على رغم هذه المحاذير فإن وزير الخارجية هيلاري كلينتون أخبرت العاهل الأردني عبدالله الثاني، أنها طلبت من نتانياهو تمديد قرار تجميد الاستيطان لمدة عشرة أشهر أخرى. وفي تصورها أن العقوبات المفروضة على إيران قد تجبرها على تعديل مواقفها المتشددة بحيث تشجع مصالحة «حماس» مع السلطة الفلسطينية. ويرى المراقبون في عمان أن مسألة تحقيق مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة يحظى بدعم الأردن، لأن فشله يحيي مشروع شارون «الأردن هو فلسطين». والملاحظ في هذا السياق أن عدداً من السياسيين الإسرائيليين بدأ بنشر ذكرياته عن أحداث «أيلول الأسود» عام 1970. واعترفت الغالبية منهم بالخطأ الذي ارتكبته إسرائيل لأنها ساعدت الأردن عسكرياً ومنعت انتصار منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات. وهي تتوخى من حكومة نتانياهو ألا تكرر خطأ 1970 في حال اصطدمت المعارضة الأردنية مع النظام! في مؤتمره الصحافي الأخير، قال الرئيس باراك أوباما «إن تجميد الاستيطان سيساعدنا على التصدي لإيران». وكان بهذا الربط يشير الى ضرورة فصل العلاقة الوثيقة بين طموحات إيران النووية وإنشاء دولة فلسطين. وللتوصل الى هذه النتيجة ترى الإدارة الأميركية، أنه لا بد من انتظار نتائج العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران. وقد أعلن غاري سيمور، مستشار أوباما لشؤون الحد من الانتشار النووي، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن طهران تحتاج الى سنة واحدة لاستكمال صناعة قنبلة ذرية. لهذا قال نتانياهو إن لديه الوقت الكافي لحسم رأيه في شأن استهداف محطة «بوشهر» النووية، أو مواقع أخرى أكثر ارتباطاً بالبرنامج النووي الإيراني. الرئيس أحمدي نجاد قال في أكثر من مناسبة، إن رهان أميركا على نتائج المقاطعة الاقتصادية لن يضعف طموحات ايران النووية. والدليل أن العقوبات خلال السنوات الأربع الماضية، لم تعرقل عملية تخصيب اليورانيوم. ويستبعد نجاد أن تكون المقاطعة الاقتصادية مدخلاً لاستخدام الخيار العسكري كما حدث مع العراق. وقد هدد بإقفال مضيق هرمز الذي يؤمن اربعين في المئة من الصادرات النفطية للسوق العالمية. كما هدد باستخدام سلاح النفط بحيث يربك الأسواق ويرفع الأسعار في شكل جنوني لا يحتمله الوضع الاقتصادي المهترئ في الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. كل هذه التهديدات لن تجبر إسرائيل على التراجع عن القرار الذي اتخذته حكومة مناحيم بيغن في العاشر من أيار 1980 بضرورة نسف كل مفاعل نووي يقام في المنطقة. ويرصد الخبراء العسكريون بيّنات واضحة على الاستعدادات الإسرائيلية لهجوم محتمل على إيران، والدليل على ذلك أنها اشترت القنابل الخاصة بتدمير المخابئ المحصّنة المسماة «القنابل الذكية» من نوع «جي بي يو - 39». كما باشر رئيس الأركان الجديد يؤاف غالانت عمليات تدريب جنود الاحتياط على مواجهة الرد الإيراني المحتمل إثر قصف منشآت ايران النووية. في سياق هذه الاستعدادات، قام نتانياهو الشهر الماضي بزيارة مفاجئة لأثينا استمرت يومين. ومع أن رئيس وزراء اليونان جورج باباندريو كان زار إسرائيل عقب توتر علاقاتها مع أنقرة، إلا أن نتانياهو استغل المناسبة لإقناع الحكومة اليونانية بالموافقة على مرور الطائرات الحربية المتجهة نحو إيران. وكانت تركيا التي أقامت علاقات عسكرية واستخبارية وثيقة مع إسرائيل، ألغت مناورات مشتركة إثر الهجوم الإسرائيلي الدامي على الأسطول التركي المتجه نحو شاطئ غزة. كما أعلنت رفضها مرور الطائرات الإسرائيلية في أجوائها، كما كان يحدث سابقاً. هل يعني كل ذلك أن الاستعداد للحرب سيفرض نشوبها حتى لو أدى ضرب إيران الى إشعال كل الجبهات المتعاطفة معها؟! من المؤكد أن جبهة الجنوب اللبناني ستكون الأكثر اشتعالاً والأكثر استهدافاً لأن إسرائيل في هذه المرة ستنتقم لحروبها الست التي خسرتها في لبنان منذ اعتداء 1978. كما ستنتقم من «حزب الله» الذي نزع منها عنفوان انتصاراتها في حربي 1967 و1973. الإدارة الأميركية تبحث عن خيارات أخرى في حال فشل مشروع السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، أو تأخرت إيران في امتلاك قنبلة نووية. وهي ترى أن التفاوض في شأن استرداد مرتفعات الجولان أسهل ألف مرة من التفاوض على ملكية الضفة الغربية، حيث تتداخل الأديان والعقائد في صنع التاريخ والجغرافيا. لهذا طالبت اللجنة القانونية في الكنيست بضرورة إجراء استفتاء شعبي بعد حصول الحكومة على موافقة 61 نائباً. بخلاف المفاوضات المشروطة مع الفلسطينيين، فإن سورية تطرح شرطاً أساسياً وضعه الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل مفاوضات جنيف: «السلام الكامل مقابل الانسحاب الكامل من الجولان». ويبدو أن إسرائيل رحبت بهذا الخيار الذي يعفيها من تهمة الاحتلال، ويصورها من جديد دولة مهتمة بالسلام مع العرب. وترى واشنطن أن مثل هذه التسوية - إذا تمت - تغيّر وجه المنطقة، وتحل المشكلة مع إيران من دون حرب. موقف فرنسا في هذا السياق لا يختلف عن موقف إدارة أوباما. وقد نقل المبعوث الرئاسي الفرنسي لعملية السلام كوسران رسالة من الرئيس نيكولا ساركوزي الى الرئيس بشار الأسد يشير فيها الى أهمية تحريك المسار السلمي السوري - الإسرائيلي. وترى دمشق في الدور الفرنسي صورة مختصرة عن دور دول الاتحاد الأوروبي. في حين دعا الرئيس الأسد الى أهمية التنسيق مع تركيا في هذا الشأن من أجل البناء على ما تم التوصل إليه في المفاوضات غير المباشرة عبر الوسيط التركي. وتتطلع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون الى مهمة السفيرة الجديدة في بيروت مورا كونيلي التي عملت كقائم بالأعمال في سفارة الولاياتالمتحدة في دمشق. لذلك عينتها مساعدة لها في دائرة الشرق الأوسط، واستفادت من تجربتها السابقة. وقد اختصرت كونيلي مهمتها بالقول أمام الرئيس ميشال سليمان ووزير الخارجية علي الشامي والمدير العام بالوكالة وليم حبيب: «إنه لشرف عظيم لي أن أخدم بلدي في لبنان، الوطن الذي التزمنا الحفاظ عليه مستقلاً ذا سيادة مع مؤسسات الدولة القوية والفاعلة». وكانت السفيرة بالتأكيد قد اطلعت على البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية والذي ينتقد فيه رئيس الجمهورية المشككين بالمؤسسات الدستورية والشرعية والقضائية. وكان بهذا البيان يعبر عن قلقه من استفحال الأزمة السياسية التي ساعدت تصاريح رئيس الحكومة سعد الحريري في تأجيجها. وبسبب الفلتان العشائري والاستهانة بسلطة القانون أظهرت المواجهات التلفزيونية أن لبنان يعاني من انحلال أخلاقي وثقافي يقوض تدريجاً منعة التكافل الاجتماعي وحصانة الهدف الوطني المشترك. في أول لقاء تم بين الرئيسين بشار الأسد وسعد الحريري، استمهله الأسد برهة ليسأله قبل أن يجلسا ويباشرا الحديث: «أرجوك أن تجيب بصراحة، هل لديك ذرة من الشك في أن سورية لم تغتل والدك؟». ونفى الحريري أي اتهام لسورية. ولكنه لم ينكر أنه يبحث عن الحقيقة في عملية اغتيال والده. وكان بالتأكيد يتوقع من سورية مساعدته على كشف الحقيقة، لأنها كانت مولجة بحماية الأمن والسلامة العامة بواسطة رئيس جمهورية وأجهزة قادرة على رصد تحركات كل المواطنين، وهي اليوم تسعى الى استرداد نفوذها بعد غياب خمس سنوات، وذلك بواسطة «وكلاء حصريين» في وقت تضطرها أحداث المنطقة الى نقل نشاطها الى العراق. * كاتب وصحافي لبناني