ربما لم تحدث كارثة طبيعية في العقود الأخيرة تعادل فيضانات باكستان. وما زالت توابعها تتفاقم، وآثارها تتعاظم، على رغم توارد بعض الأنباء الطيبة عن أعمال العون والإنقاذ مؤخراً. الأرقام الباردة تبعث على القشعريرة. باختصار: خمس البلاد أصابه الدمار، وخمس سكانها أصابهم الخراب. آلاف أعمدة الكهرباء وقنوات الصرف الصحي والجسور، وسلسلة من الأمراض والعوز والتشرد. عند انفصالها عن الهند في 1947، ورثت الباكستان قسماً من الجيش البريطاني المحلي، لكنها لم ترث شيئاً مهماً من البنية التحتية للدولة، التي أسسها الاحتلال. ورثت نصيبها من أدوات احتكار العنف، ولكن، ليس ما يكفي لاستقرار الدولة المدنية. فكان الجيش فوق الدولة في معظم الأوقات بعد ذلك. الجنرالان البريطانيان اللذان تتاليا على قيادة الجيش في البداية تمرّدا على أوامر محمد علي جناح (القائد الأعظم) بحجة أنهما معيّنان أساساً من حكومة جلالة الملكة. لكن جنرالات باكستانيين آخرين استمروا على التقليد نفسه، على رغم أنهم جاؤوا بتعيين من السلطة الوطنية الصرفة. أيوب خان وضياء الحق وبرويز مشرف نالوا الشرف والتكريم ولم يُحاكموا على الانقلاب العسكري واغتصاب السلطة. وكانت تحالفاتهم الخارجية ودعم الولاياتالمتحدة واستنادهم إلى إسلامهم والنزعة القومية في وجه الهند، كلها سنداً لاستلامهم السلطة واستقرارهم فيها. وفي 2009، زعمت منظمة الشفافية الدولية ما يعني أن الجيش هو أكثر المؤسسات فساداً في الباكستان. لكن هذا لا يعني أن النخبة السياسية أقل فساداً، وبرموزها الذين ترتبط أسماؤهم وأحزابهم باسم الديموقراطية والحكم المدني. الجيش الباكستاني، على غرار محمد علي جناح وقيادات سياسية كثيرة بعده، علماني وإسلامي في الوقت نفسه. لذلك يحارب القاعدة وكان له ضلع في تأسيسها، ويحارب طالبان ويحتفظ بصلاته القديمة معها، في الوقت نفسه. وقد يعني هذا أنه لا يملك «عقيدة قتالية» ثابتة وواضحة. لذلك لا ينجح ولا يفشل في معاركه مع أعدائه «المعلنين». هو جيش قوي أثبت وجوده في الحروب والكوارث، وحتى في الحروب العربية - الإسرائيلية أيضاً، ويسهم في الكثير من مهمات حفظ السلام الدولية بكفاءة عالية. لكن هذا قد لا ينفي ذاك. فالأهم هو تأثير تركيبته ودوره على ما يُسمّى بفشل الدولة نسبياً حتى الآن، على رغم قوته النووية، التي يراها البعض نقطة ضعف في الظروف المذكورة، والآخرون نقطة قوة مطلقة. يمثّل عجز الدولة بجيشها عن حسم الصراع مع التطرف وطالبان والقاعدة نتيجةً لهذه المفارقات، مع ضعف الدولة الوطنية والمؤسسات المدنية أيضاً. ولن تكون الكوارث في مثل هذه الأحوال إلا أداة لتعزيز كل هذه النواحي السلبية، وأداة لتبرير التسلط وتمرير الفساد وتكريس التفتت الاجتماعي. في حين أنها نفسها يمكن أن تكون فرصة لحالة مختلفة، هي وحدها الشيء الطبيعي أو المطلوب. حين انقسمت الباكستان عن الهند حدثت أكبر هجرة في التاريخ، شملت عشرة ملايين إنسان. وظهر اسم الدولة الناشئة، ليعني «بلاد الأطهار» بالأوردو، أو ليجمع شتات حروف من أسماء شعوبها في كلمة واحدة. وحدث انفصال البنغال، أو «باكستانالشرقية»، بعد فيضان آخر وانتفاضة شعبية واستعلاء مديد من الغربيين على الشرقيين. كما بقيت مسألة الكشميريين مع قبلية الشمال الغربي من البلاد باستقلاله الذاتي عواملَ فوضى تعزّز حالة الطوارئ المتقطعة (لكن الطويلة بمجموع فتراتها) وفرصَ الجيش للاستبداد بالحكم. لم يسمح العنف والقسوة في توزيع الثروة الوطنية، والمزايدات في الاحتماء بالإسلام كإيديولوجيا وأداة في السياسة، وفساد النخبة السياسية المدنية، بتطوير مؤسسات الدولة وتحصينها. ومن الطبيعي ألا ينفع تطوير سلاح نووي في ذلك، مع أنه يدعم موقف الحكومة في نزاعها مع الهند، ويدعم في طريقه هيبة الجيش وقدراته «السياسية». إذاً، كان هنالك طوفان كامن في الباكستان، ظهر إلى السطح مع الطوفان الأخير. كما كانت هنالك طائفية كامنة في العراق أيام الاستبداد، ظهرت بشاعتها وعنفها إلى السطح بعد الاحتلال الأميركي. ولا يبدو أن هنالك أية ملامح للمراجعة العميقة وإعادة النظر. فالجيش يتسابق مع طالبان في عمليات الغوث وإعادة البناء مع مساهمات طالبان، في غيابٍ نسبي للدولة المدنية. والقوى السياسية مشغولة بتحقيق مكاسب ظاهرية أو تفادي خسائر سياسية، والفساد لا يزال عملاقاً في ظلاله الممتدة، والفقر والتشرد وخراب البنية التحتية أرض طيبة لكلّ ذلك. الباكستانيون في قلب الأزمة ونتائج الفيضانات. والأكثر أهمية بالطبع هو الإسهام في تقديم العون الدولي العاجل، والضغط على الحكومات الغنية والمؤسسات الدولية المعنية لتقدم بعضاً مما هو فائض عنها. لكن الكوارث قد تكون فرصة من نوع آخر- لمن أصابته أو لمن هو في حالة تشبهها في جانبٍ أو آخر- للتوقف عن الغناء على شاطئ المستنقع. لأن دولة هشّة لا تستطيع مواجهة كارثة طبيعية كبرى، ولو امتلكت جيشاً قوياً وحساً قومياً أو دينياً متضخماً. والدول العربية - مع إيران - لا تستطيع التغطية على الدروس الواجب استخلاصها، بمساعداتها الكبيرة أو الصغيرة، خصوصاً حين ترى حجمها يتناسب عكساً مع مقدار الطنطنة الإعلامية المرافقة. وأسباب ضعف الدولة أو فشلها وهشاشتها هي ما يجب مواجهته بحسٍ من المسؤولية، حكوماتٍ ونخباً سياسية ومثقفين ومجتمعاً مدنياً، أو ما تيسّر من مجتمع مدني. أم أن الكلام مكروه في مجلس العزاء... وحالات الطوارئ؟ في مقالة الكاتب الباكستاني الأشهر أحمد رشيد في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» حول فيضانات بلاده، تنبّأ بأنه ما لم ترد مساعدات نوعية هائلة من المجتمع الدولي، فسوف تواجه الباكستان والمنطقة والعالم تحدياً أمنياً غير مسبوق. كما ستظهر توترات إثنية وأعمال شغب تحرّكها الحاجة إلى الغذاء. وتكمن المخاطرة في أن ينطبق ما يقوله البعض، من أنها «دولة فاشلة تملك أسلحة نووية». وعلى رغم تقصير الهند في المساعدة، فإن طريقة مناقشة البعض للكارثة غريبة أيضاً، حين يكادون أن يقولوا إن الفيضانات «مؤامرة» هندية! * كاتب سوري.