تحاول السينمائية اللبنانية كارول منصور، أن تراكم رصيداً من الأفلام الوثائقية، مبتعدة قدر الإمكان عن المواضيع العامة، لتغوص في الحرب والدمار وما يعانيه الإنسان خلالهما. في أحدث أفلامها الوثائقية «أنا آت من مكان جميل»، تترك كارول الكاميرا تلتقط أدق التفاصيل، حركة اليدين، الدمعة، تهدجات الصوت، الحسرة في العينين والخوف من المستقبل. يروي الفيلم قصة لاجئ سوداني من دارفور خسر جميع أفراد عائلته باستثناء شقيقته الصغرى التي لم يعثر عليها حتى اليوم. وقصة الشابين العراقيين سارة وحسام اللذين هربا مع والدهما من العنف في العراق، ثم هربا من والدهما نفسه بعدما وصلا إلى لبنان إثر تعرضه لهما بالضرب. وقصة العراقي حيدر الذي تعرض للتعذيب على أيدي الأمن السياسي بتهمة «التداول بالعملة الأميركية»، والعراقية هناء التي فقدت زوجها في العراق، فهربت بسبب الحرب الدائرة إلى لبنان، ومن ثم تبعتها بقية أفراد عائلتها. والملاحظ هنا التركيز على الحالات العراقية لما عاناه وما يعانيه هذا البلد من آفات. لم تتدخل كارول كثيراً في سرد الأحداث وتعظيمها، بل كانت تسأل سؤالاً، وتنتظر جواباً يحفز المشاهد على تشغيل مخيلته والتفكير بالمشهد. كلام اللاجئ العراقي مثلاً الذي عُذب حتى تعطلت شبكة عينه اليمنى، لم يكن بحاجة الى مشاهد تمثيلية تشرح وتفسر ماذا فعل به النظام الأمني السابق. يؤكد عنوان الفيلم «أنا آتٍ من مكان جميل» على أن الحرب لا تمحو الذكريات بل تشعلها أكثر وأكثر، فلم ينسَ أحد من الشخصيات المشاركة مدى روعة وطنه على رغم كل ما مر به. لم تضع كارول صوراً عنيفة أو مشاهد قوية في الفيلم، لمعرفتها المسبقة أن كلام المشاركين أقوى من أن يُدعّم بمشاهد تمثيلية قد تبدو مفتعلة. لا تقدم كارول فيلماً لترفيه المشاهد على غرار بعض الأفلام التجارية، بل تحاول أن تنقل صورة بواقعيتها وكما هي بلا مؤثرات حركية أو صوتية. تركيز عراقي – سوداني لم تختر السينمائية اللبنانية شخصيات فيلمها على أساس معين اذ قدمت «مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين» ملفات عدد من الحالات، وتم الاختيار من بينها على أساس من يقبل التصوير ومن كان طيعاً فيه، كما طلبت المفوضية التركيز على حالات العراقيين في لبنان، والإضاءة على إحدى الحالات السودانية. تقول العراقية هناء (احدى شخصيات الفيلم): «هذه صورتي مع زوجي، كنا نخرج كل يوم ونتعشى في الخارج ونأكل بوظة، وهذا دفتر توفير مصرفي، كنت ألعب بالمال لعباً حتى وأنا صغيرة». تنهض وتستعرض بيتها اللبناني، لتشرح: «انام هنا على هذا السرير، وعلى السرير الآخر ينام شقيقي وزوجته، وعلى الارض ينام ابنهما الصغير، ومن أسرّتنا نشاهد التلفزيون». مشهد يختزل حياة كاملة، من الحب والفرح والسعادة الى الفقدان والحرمان واللجوء. ينتزع الفيلم من حيدر الذي عانى الأمرين اعترافات خطيرة، «أحلم ان أعيش في مكان استطيع ان افتح فيه الشبابيك على مشهد جديد ولغة جديدة وعالم جديد، أريد أن ابدأ اول حرف من أول فصل في حياتي المقبلة». لم يعد حيدر يريد وطناً أو حبيبة، كل ما يريده اليوم نافذة جديدة تتسع لأفق قد يزول في حرب جديدة. كارول التي كانت قدمت وثائقياً عن حرب تموز (يوليو) وعن حياة الخادمات الأجنبيات في لبنان، تعمل حالياً على إنجاز وثائقي عن حق اللبنانيّة في منح جنسيتها لأولادها.