لم أدرس من الإنتاج الإبداعي للدكتور غازي القصيبي إلا جانباً من كتابه المعنون ب: «100 من أقوالي غير المأثورة». وكان ذلك في أطروحتي للدكتوراه وهي بعنوان: «فن الإبيجرام في الأدب العربي المعاصر»، وكانت أعمال الدكتور غازي التي صنفتها تحت فن الإبيجراما من أهم النماذج التي اخترتها من نطاق الجزيرة العربية والخليج العربي. وترجع أهمية هذه المقولات غير المأثورة إلى أنها تندرج تحت فن الإبيجراما، ليس هذا فقط، بل تندرج تحته في صورته المثالية، حيث تحقَّقَ فيما كتبه القصيبي الكثير من سمات هذا الفن، وزاد عليه الإخراج الطباعي للكتاب ودعمه بالرسوم الكاريكاتورية والتعبيرية التي تآزرت مع الكلمات لتنتج لنا إبيجراما مدعومة بالرسوم التي هي في ذاتها تحمل الكثير من التعبيرات والمعاني. ولأن المبدع غازي القصيبي كان فريداً في كثير من إنتاجه الإبداعي، متعدد المواهب والقدرات، فإنني أرى في إبيجراماته أو أقواله غير المأثورة صورته غير المأثورة أيضاً أو الفريدة غير المكررة. كلمة إبيجرام مأخوذة من الكلمة اليونانية: Epigramma وجمعها إبجراماتا، وهي مقطوعة من الشعر يتراوح طولها ما بين بيتين أو خمسة عشر تقريباً قد تكون للمدح، أو للرثاء، أو بغرض الإعلان عن شيء ما( ). وهي «مركبة في اللغة اليونانية القديمة من كلمتين هما: «epos» و «graphein» ومعناها: الكتابة على شيء. وفي البداية كانت تعني النقش على الحجر في المقابر؛ إحياء لذكرى المتوفى، أو تحت تمثال لأحد الشخوص». ومن معانيها اللغوية في الإنكليزية الحديثة: الحكمة، أما المعنى الاصطلاحي الذي استخلصته من عشرات التعريفات القديمة والحديثة فيتمثل في أن الإبيجراما: «شكل أدبي – شعر أو نثر- يتميز بالتركيز والتكثيف وواحدية الفكرة التي تطرحها المقطوعة الواحدة منه، وقد يعتمد على لغة المفارقة وبنية التضاد، سواء على مستوى الألفاظ أم المعاني، وغالباً ما ينتهي بنوع من أنواع المفاجأة أو الإدهاش، وتتنوع موضوعات هذا الفن، ومن أبرزها النقد الاجتماعي والسياسي. وقد تأتي الإبيجرامة الواحدة في هيئةِ بنيةٍ مستقلة، أو داخل بنيةٍ أكبرَ منها تمثِّل هي إحدى مكوناتها». وفي «100 من أقوالي غير المأثورة» تحققت أكثر سمات فن الإبيجراما، فالأقوال المائة تتميز بالقصر الشديد والتكثيف والتركيز، وتعتمد على لغة المفارقة وبنية التضاد في أكثرها، وحققت كذلك المفاجأة والإدهاش، واعتمدت على التناص والنقد الساخر للحياة الاجتماعية والسياسية. ولأن مقالاً واحداً لا تتيح مساحته دراسة المقولات المئة، فإنني سأتخير عدداً محدداً من المقولات يفي بغرض الكشف عن قيمتها الفنية بوصفها إنتاجاً إبداعياً يندرج تحت فن من فنون القول لم يحظ باهتمام حقيقي في الدرس النقدي، على رغم من نماذجه الإبداعية الراقية. من تاريخ الإبيجراما وفن الإبيجراما من الفنون الإغريقية، إذ كانت نشأته الأولى، وبرز من مبدعي اليونان عمالقة وصلوا بهذا الفن إلى مستوى راق، منهم كاليماخوس، الذي كان مسؤولاً عن مكتبة الإسكندرية، وكذلك ملياجروس السوري، ثم انتقل هذا الفن إلى روما بعدما أَفَلَتْ شمس أثينا، وبرع من مبدعي اللاتين كثيرون، منهم مارسيال وجوفينال وكاتوللوس وغيرهم. وفي أدبنا العربي المعاصر كان أول من أشار إلى هذا الفن الدكتور طه حسين، وذلك في كتابه «جنة الشوك»، وقد كتب مقدمة تنظيرية مركزة عن فن الإبيجراما وتاريخه، ثم ثنى بأعمال إبداعية له جاءت نثراً، وفي عام 2000 أصدر الدكتور عز الدين إسماعيل ديوانه «دمعة للأسى ... دمعة للفرح»، وهو كله من فن الإبيجراما، وأكثر ما به من إبداع كان قد نشره في ثمانينيات القرن العشرين بمجلة «إبداع» القاهرية، وقد تأخر الدكتور عز الدين كثيراً في نشر هذا الديوان، وقدمه بتنظير لم يختلف كثيراً عما جاء في مقدمة طه حسين، ثم ثنى بمقطوعات شعرية، تندرج تحت هذا الفن. نماذج تحليلية لأقوال القصيبي على مستوى الموضوعات يتناول القصيبي الشأن السياسي العربي والإسلامي، والشأن الاجتماعي كذلك، ويتطرق إلى أمور الفن والثقافة... وغير ذلك مما ينغمس فيه الإنسان العربي، فيوجه سهام النقد إلى التصرفات والمواقف، ويسخر مما آلت إليه الأمور من دون تجريح لأشخاص أو هيئات بعينها. ويمعن في اللذع فيعمد إلى تحوير عدد من الأمثال والمقولات المشهورة التي أصبحت بمثابة أحكام عامة أطلقها الناس بحكم الأوضاع المتردية سياسياً واجتماعياً للسخرية من أحوالهم وأوضاعهم، فيسخر من السخرية، ليصبح الأمر بمثابة توالد للسخرية، وهي سخرية تؤدي معاني مثيرة للانتباه ظاهرها الضحك وباطنها الألم مما آلت إليه الأحوال. ومن نماذج نقد الواقع الفني العربي قوله: « تجوع الحُرّة» ولا ... تغني بثدييها الصورة الساخرة تتأتى من توظيف المثل القديم: «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» والمثل يضرب لمن تموت جوعاً ولا تفرط في شرفها، أو تلك التي تحتمل ألم الجوع ولا تعمل العمل الذي لا يليق بها كونها حرة، وهو في المثل إرضاع الصغار بالأجر – كان من عادة العرب قديماً أن يستجلبوا المرضعات لأبنائهم – أما لدى القصيبي فإن الحرة تجوع ولا تغني «بثدييها» وهو هنا ينتقد وضع الغناء العربي في عصرنا الحاضر الذي اعتمد على كشف الجسد لا جمال الصوت، وعلى إثارة الغرائز لا التأثير في المشاعر. ومن نماذج نقد الواقع السياسي العربي في عمومه قوله: «العرب ظاهرة صوتية» غير موزونة .. وغير ... مقفّاة، إنه يسخر من عرب العصر الحاضر، فيستدعي عنوان كتاب للراحل: «عبدالله القصيمي» وهو كتاب: «العرب ظاهرة صوتية»، إذ وجه فيه سهام النقد إلى أمة العرب في عصرنا الحديث نتيجة مواقفهم الباهتة تجاه قضاياهم، ويضيف المبدع إلى هذا الوصف الساخر المعبر، إضافة أخرى تثري الدلالة فتوحي بمعاني العشوائية والغوغائية وتضارب المواقف، وكأن العرب بمثابة قصيدة شعرية تفتقد إلى السمات الموروثة للقصيدة التي تنسبها إلى الأصالة – والمقصود الوزن والقافية – وكأنهم بذلك قصيدة جاهلية مثلاً غير أنها تفتقد إلى أهم سماتها الشكلية – وربما الجوهرية – من وزن وقافية. ومن نماذج نقده لبعض الأفكار المتطرفة قوله: «لا أحد أظرف من الأصولي المتطرف الذي يطلب حقّ اللجوء في أعظم الدول كفرًا». إنه يصيب بسهمه بعض المتشددين الذين لا تكف ألسنتهم عن نقد الغرب ووصفه أنه «دار كفر»، كما في أدبيات الفقه القديم، وعلى رغم من ذلك لا يجد هذا الشخص الذي يكفر الغرب ملاذًا آمنا يلجأ إليه إلا في الغرب، وما ذلك إلا لأن الأوطان التي يحيا فيها، التي يفترض أنها دار إسلام، لا تقيم العدل. والسخرية هنا عميقة وتضرب في كل اتجاه، فهي من ناحيةٍ سخرية من أصحاب الأفكار المتشددة الذين يناقضون أنفسهم في طرحهم الفكري الذي يطرحونه، ومن ناحية أخرى سخرية من البلدان التي تدعي الإسلام، وتصرفاتها تجاه أبنائها المخطئين تصرفات تجنح إلى الظلم والقهر والتشدد المضاد، مما يجعل خلاص الطرف الأضعف في اللجوء إلى الغرب – المتهم بأنه دار كفر – إذ إقامة العدل وحفظ حقوق الإنسان. من السمات الفنية في أقواله غير المأثورة تحققت سمات فنية وأدبية عدة في أقوال القصيبي غير المأثورة، وسنكتفي بالإشارة إلى أبرز الأدوات الفنية والسمات التي ارتكزت في هذه الأقوال. من هذه السمات الاعتماد على الإدهاش والمفاجأة، ومن نماذج ذلك قول القصيبي: «ولمّا رأيت الجهل في الناس فاشيًا» فتحت .. مدرسةً أهلية ... والإدهاش هنا مبني على نص إبداعي آخر، ووظفه المبدع في إبيجرامته منحرفاً به عن المعنى الأول والدلالة الكاملة له إلى معنى آخر يحقق الإدهاش والمفاجأة، ولا يخلو من قدرته على انتزاع البسمة من شفاه القارئ، والبيت المستدعى هو بيت أبي العلاء المشهور الذي يقول فيه: ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً... تجاهلت حتى ظن أني جاهل غير أن القصيبي هنا اتخذ موقفاً إيجابياً من الجهل المتفشي حيث لم يدّع الجهل كأبي العلاء إنما سعى لإنشاء مدرسة للقضاء على هذا الجهل، وفي ذلك نقد على نحو ما لتفشي الجهل في المجتمعات العربية مما يتطلب من كل ذي مقدرة أن يسعى لمحوه. وفي إطار مشابه وبالتقنية ذاتها ينتقد القصيبي أوضاع المعلمين المادية فيستدعي بيت أحمد شوقي المشهور الذي يقول فيه: قف للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا وقد أيد ما جاء في بيت شوقي من إجلال للمعلم، إلا أنه عطف على الشطر الأول من البيت بقوله «وحاول زيادة راتبه» وكأن تكريم المعلم أدبياً وتقديسه لن يجدي نفعاً طالما كانت أحواله المادية متردية، فلن يسعد المعلم كثيراً أن نضعه في مكانة تقترب من مكانة الرسل والأنبياء وأن ينام خاوي الجيب أو طاوي البطن، يقول القصيبي: « قم للمعلم وفّه التبجيلا» وحاول زيادة راتبه ... ويعد التناص – من تعريفاته: وجود آثار لنصوص أخرى في نص إبداعي، تؤثر في طريقة قراءته – من التقنيات التي بنى القصيبي أكثر أقواله غير المأثورة عليه، ومن نماذج ذلك قوله في إبيجرامة نثرية وظف فيها شطر بيت شعري تراثي لسلم الخاسر:«من راقب الناس مات هماً»ومن لم يراقبهم ... مات ضجراً. وقد أورد القصيبي النص الرافد بتمامه بين علامتي تنصيص، وحور في الشطر الثاني الذي يتراءى للمتلقي نتيجة إيراد الشطر الأول من البيت المشهور، والشطر الأصلي الغائب الحاضر بالتبعية هو بقية بيت سلم الخاسر: «وفاز باللذة الجسور»، وقد خرج المبدع من المعنى الحاضر في الشطر الثاني من البيت التراثي إلى معنى آخر يدل على الفضول وقتل الملل بالاطلاع على أخبار الناس وحكاياتهم. ونلمح في إبيجرامة القصيبي نوعاً من أنواع السخرية والنقد الاجتماعي لعادات شائعة، ومنها حب الفضول. والملاحظ أن النص الرافد في هذه الإبيجرامة من النصوص التي أثيرت حولها اتهامات قديمة؛ حيث قيل في حقه إن سلماً الخاسر أخذ بيته هذا من بيت بشار الذي يقول فيه: من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج. وقد أطلق هذا الاتهام ابنُ الأثير في كتابه «الاستدراك»، وفضل فيه بيت سلم الخاسر على بيت بشار. ومثل هذا التناص المتراكم بين النصوص القديمة مع بعضها البعض وبين ما يتم توظيفها فيه من نصوص حديثة يجعل من محاولات الوصول إلى النص الأول مهمة شاقة إن لم تكن مستحيلة. إبيجرامات القصيبي وفن الكاريكاتير لعل فن الكاريكاتير من الفنون التي تتلاقى مع فن الإبيجراما من زوايا مختلفة، وأحياناً كثيرة تنطوي العبارة الكاريكاتورية متآزرة مع الرسم على إبيجراما في جوهرها. وكل من الإبيجرام والكاريكاتير يتميز بروح السخرية، وهي صلة النسب الأوثق التي تجمعهما، وكلاهما يتميز بواحدية الفكرة والموضوع المطروح، وكذلك يمتاز الإبيجرام بالقصر والتركيز والتكثيف، وهو ما يشاركه فيه الكاريكاتير، وكلاهما غالباً ما يكون لاذعاً؛ وكلما زادت جرعة اللذع زاد الأثر المرجو من العمل الإبداعي – الإبيجرام والكاريكاتير على وجه الخصوص - وكلاهما كذلك يعتمد على المبالغة أو التشويه، والمقصود بذلك هو إظهار نسب الصورة على غير حقيقتها بقصد أن تستثير الضحك والسخرية أولاً، وأن تعبر عن الفكرة على النحو المناسب ثانيًا، «أي أن الرسام يتلاعب بالمظاهر المادية للشخصية للتأكيد على الملامح النفسية المختلفة ولتجسيد رأيه في تفكيرها وسلوكها»، وكذلك مبدع الإبيجرام يلجأ إلى المبالغة معتمداً في عرض أفكاره على تشكيل اللغة حتى تؤدي صوره الفنية غرضها في الإمتاع والإقناع، والتأثير في المتلقي، وتسعى لتحقيق الغاية نفسها. وفي أقوال القصيبي غير المأثورة، كل قول مدعوم برسم كاريكاتوري أو تعبيري، وهذا يوضح صلة القربى بين إبيجراماته وبين فن الكاريكاتير بالإضافة إلى روح الكاريكاتير التي تحملها الأقوال نفسها. فمثلاً هو يسخر من تعددية العالم الثالث، وهي تعددية زائفة، إلا أنه يرسمها بكلماته على حقيقتها، فيوضح أنها مزدهرة لكن بصيغة أخرى، وهي تعدد الحكام المتسلطين، أو تعاقبهم، أو كثرتهم، ما بين ديكتاتور رقم 1، وديكتاتور رقم2، وديكتاتور رقم 3، إلخ. يقول القصيبي: تزدهر التعددية في العالم الثالث: ديكتاتور .. رقم 1، ديكتاتور .. رقم 2، ديكتاتور .. رقم 3 ويرسم القصيبي صورة كاريكاتورية لأصحاب دور النشر، فيعتمد في بنائها على الأصل اللغوي الواحد لكلا الكلمتين: «ناشر، منشار» ويثير الانتباه بسؤاله عن الشبه بين الكلمتين، وهو لا يجيب على السؤال الذي طرحه، بل يترك القارئ يستنبط مرماه، وهو التقاط عناصر النقد الموجهة إلى بعض الناشرين ممن يغالون في أسعار الكتب والمطبوعات، وكأنهم بذلك ينشرون رقبة القارئ، أو ينشرون رقبة الكاتب الذي قد لا يتحصل على مستحقاته منهم. يقول القصيبي: الناشر .. والمنشار .. هل لاحظت الشّبَه ؟ إن الأقوال المئة غير المأثورة لغازي القصيبي تكشف عن روحه الأدبية خفيفة الظل، التي تشربت بحكمة السنين، وخبرة الأيام والمسؤوليات، وهي مما يندرج تحت فن الإبيجرام، وأعُدُّها من النماذج التي تعبر عن هذا الفن تعبيراً مثالياً، فرحم الله الدكتور غازي القصيبي رحمة واسعة. * ناقد وكاتب مصري.